ارشيف من : 2005-2008

الأسرى الفلسطينيون..حالة من التدهور والمعاناة وصلت حد القتل

الأسرى الفلسطينيون..حالة من التدهور والمعاناة وصلت حد القتل

رام الله ـ ميرفت صادق






في الزيارة الأخيرة لأهالي أسرى منطقة طولكرم إلى سجن النقب الصحراوي، اقترب الأسير محمد ساطي الأشقر (28 عاما) من والدته وقال لها بنبرة فرح اختمرت مع قرب الإفراج عنه: "في المرة القادمة لن تأتيني، وأنا من سيكون بينكم.. هذه آخر زيارة لك"...
أم محمد، ستبادل ولدها الفرح لأن أقل من 60 يوما تفصلها فقط عن احتضان ابنها حيث موعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال بعد قضاء عامين في آخر اعتقال له..
وفي الثاني والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر، فجر الاثنين، استشهد محمد... دون مرض أو سكتة مفاجئة، ولكن برصاصة دخلت في مقدمة رأسه وخرجت من المؤخرة، دون أن يترك له فرصة احتضان ولده "مجاهد" ابن الثلاثة أعوام، أو أن يفسح لأمه ووالده وأشقائه قليلا من الفرح باجتماع العائلة لأول مرة منذ سنوات طويلة.. في عيد يقترب بلا محمد!
في فجر الاثنين اقتحمت قوات إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية أقسام الأسرى في سجن النقب الصحراوي، وشرعت بإطلاق الأعيرة المطاطية والغاز المسيل للدموع والخانق باتجاه الأسرى بينما كانوا نياما..
وفي الوقت الذي ادعت فيه مصلحة السجون أن الإجراء كان لغرض التفتيش، برغم اتفاق أبرمته مع ممثلي الأسرى منذ عام 2005 بعدم دخول أقسامهم ليلا، إلا أن أكثر من 250 أسيرا أصيبوا بالرصاص المطاطي والحروق والضرب واستشهد محمد الأشقر بعد إصابته بصورة خطيرة، في حين ترك الأسير تحسين الجعبة من الخليل رهينة القيود وحالته الصعبة على أحد الأسرة في مستشفى سجن الرملة.
191 شهيداً في السجون..
وبرغم الوصف الوحشي الذي اتسم به اقتحام أقسام الأسرى في سجن النقب الصحراوي، إلا أن الجديد به لم يكن سوى عدد الجرحى وارتقاء الشهيد محمد الأشقر، وباتت هذه الممارسات وعمليات القمع تحدث يوميا، منذ أن اتخذت إدارة سجون الاحتلال من التصعيد لغة للتعامل مع أكثر من 11 ألف أسير فلسطيني في أكثر من 30 سجنا ومركز اعتقال وتوقيف.
وفي تقرير أعده الباحث في شؤون الأسرى عبد الناصر فروانة، كشف أن سلطات الاحتلال اعتقلت منذ بداية الانتفاضة في أيلول من العام 2000 أكثر من 60 ألف مواطن فلسطيني بينهم 700 امرأة ونحو 6500 طفل دون سن الثامنة عشرة. وفي هذه الفترة ارتقى في سجون الاحتلال 68 شهيدا.
وحسب الباحث فروانة فقد استشهد 3 أسرى نتيجة التعذيب، و 15 أسيراً نتيجة الإهمال الطبي المتعمد، و50 أسيراً نتيجةً للقتل العمد بعد الاعتقال، أي التصفية الجسدية المباشرة، ليصل العدد الإجمالي إلى قرابة 191 شهيداً منذ نكسة عام 1967.
شهادة حية..
وفي محاولة لتقريب الصورة حول التدهور التدريجي الذي تصاعد بشكل غير مسبوق في انتفاضة الأقصى في أوضاع الأسرى والمعتقلين العرب والفلسطينيين، التقت الانتقاد الأسير عمار الهشلمون من مدينة الخليل، الذي يواجه حكما بالسجن لمدة تسعة أعوام قضى منها خمسة أعوام.
يقول الأسير عمار الهشلمون الذي يقبع في القسم ذاته الذي تعرض للاقتحام بسجن النقب الصحراوي، إن تصاعد الهجمة ضد الأسرى في سجون الاحتلال لم يبدأ من الاعتداء الأخير، ولم يكن هذا الاعتداء سوى حلقة في مسلسل معاناة الأسرى وموتهم البطيء في سجون الاحتلال.
اعتقل الهشلمون لأول مرة عندما كان في السادسة عشرة من عمره في الخامس والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 1995، وفي اليوم الأول لادخاله معتقل مجدو بعد انتهاء التحقيق معه، صدم بحادثة حية "علقت بذاكرتي ولن تمحى" كما قال.
ويتذكر الهشلمون:" دخلت في 1-1-1996 إلى غرف سجن مجدو وكانت الظروف صعبة جدا، وحينها أحضروا لنا وجبة دجاج مكونة من دجاجة واحدة لكل 8 أسرى، وعندما انتهى الأسرى من طعامهم قاموا بربط عظم الدجاج المتبقي بأبراشهم (ألواح خشب على شكل أسرّة للنوم)، فاستغربت، وعندما سألت عن السبب أخبروني أنهم لم يتناولوا أي نوع من اللحوم منذ ثلاثة أشهر. وعلقت العظام للذكرى والاحتفال..
وبرغم حالة الحرمان التي عاشها الأسرى حتى منتصف التسعينيات، إلا أنه وحسب رواية الأسير الهشلمون، شهدت الفترة من عام 1996 وحتى عام 2000 فترة استقرار نوعي في السجون بفضل الإضراب الذي خاضه الأسرى عن الطعام في تلك الفترة، والذي حقق لهم عدة إنجازات خاصة في تحسين ظروف الزيارة وزيادة كمية الطعام وتحسين نوعيته، والفورة وإدخال الملابس والحاجات الانسانية من الأهالي.
ثم يضيف الهشلمون: "عندما أفرج عني في الرابع عشر من نيسان/ أبريل عام 2000 كان عدد الأسرى الأمنيين في السجون ومراكز التحقيق الإسرائيلية 1873 أسيرا".
في 16-11-2002 اعتقل الأسير عمار الهشلمون للمرة الثانية، بعد فترة وجيزة لم تتعدّ 45 يوما من زواجه، حيث نقل مباشرة إلى مركز تحقيق المسكوبية في القدس، وهو ما يطلق عليه الأسرى اختصارا لمعاناتهم فيه "المسلخ".
 وبعد فترة تحقيق استغرقت 21 يوما في ظروف صعبة ومأساوية، نقل عمار إلى سجن هداريم المركزي، وهناك يتذكر: "كانت الصدمة حيث احتجزت في قسم للأسرى الجنائيين المدنيين من اليهود، وعندما دخلت إلى الغرف كانت في حالة خراب وعفن ورطوبة، وفضلت لو أنني بقيت في زنازين التحقيق لكان أفضل للعيش الآدمي.
التدهور مستمر..
ويحدد الأسير عمار الهشلمون عام 2004 باعتباره بداية التدهور الأكبر في ظروف الأسرى الفلسطينيين، ويقول: "حينها كنت في سجن نفحة، وبدأت تتدهور أوضاع الكانتينا (مخصصات الأسرى من الطعام والمواد الأساسية) في السجون المركزية... وسحبت كافة الإنجازات التي حققناها بعد اضرابات طويلة".
منذ ذلك الحين، يضيف الهشلمون: "أصبحوا يدخلون لنا مواد غذائية فاسدة وأطعمة منتهية الصلاحية أو عفنة، وشيئا فشيئا تضاءلت كميات الطعام بشكل كبير، بحيث أصبح الأسير حاليا يسمح له برغيف خبز "بيتا" واحد طيلة اليوم، بينما يترك المرضى منا ليواجهوا الموت دون علاج، وبدأ مسلسل منع الزيارات والعزل والعقوبات المفتوحة دون اسباب".
ويختصر الهشلمون ذلك بالقول: "أصبحت إدارة مصلحة السجون تعاملنا وكأننا مخلوقات غير موجودة بدون حقوق وبلا إنسانية".
ومن بين معاناته، انتقى الهشلمون الجرح الأكبر: "منعوني من زيارة أهلي، ومن لقاء طفلتي..."، ويضيف: "منذ أربع سنوات لم يسمح لي باحتضان منى (عمرها أربع سنوات وولدت أثناء اعتقاله) لأنني معاقب"، وعندما تحضر والدته وزوجته للزيارة "يخبرونهم بأنني نقلت أو غير موجود هنا".
المرضى لا علاج لهم..
ويعاني الأسير الهشلمون من غضروف في عموده الفقري، بالإضافة إلى قرحة مزمنة في معدته، ويؤكد: منذ سنوات وأنا أطالب بعلاج دون جدوى، وأخبرت طبيب السجن أنني أصبحت أبصق دما ولم أعد أحتمل.. بلا مجيب، والآن اتجهت لتناول الثومة يوميا وفي اغلب الأيام لا أجدها، كي تساعدني على تحمل الأوجاع".
وفي الاعتداء الأخير على أسرى النقب حيث أصيب أكثر من 300 أسير، أصيب عمار برصاصة مطاطية في قدمه، وتركته إدارة السجن كباقي المصابين دون علاج.
يقول عمار: "من فضل الله كان بين أسرى القسم ممرض، بدأنا ننقل له ما استطعنا من الأسرى المصابين، وتحولنا جميعا إلى مسعفين وكان يوجهنا لطرق ربط الجروح ووقف النزيف والإنعاش بالتنفس، وكل هذا وسط نقص حاد في الأدوات الطبية والأدوية، لم يكن لدينا سوى مسكنات، ولم تتدخل الإدارة إلا لنقل الحالات الخطيرة". في وقت أصيب عدد كبير منهم بالرصاص المعدني والمطاطي وفي الأجزاء العليا من أجسادهم.
وما أدراك ما العزل؟
وفي أقسى أنواع العقوبات التي يتعرض لها الأسرى في سجون الاحتلال، عقوبة العزل الانفرادي، حيث يقضي العشرات منهم في عزل انفرادي دائم، ويمنعون من الحديث مع أقرانهم من الأسرى وتعتبر زيارتهم ضربا من المستحيل.
ويروي الأسير عمار الهشلمون تجربة عايشها بخصوص عقوبة العزل:  "أثناء اعتقالي في سجن نفحة كنت أعمل "شاويشا" للعزل الانفرادي، أي مسؤولا عن تنظيف الزنازين، وفي إحدى المرات رفض مجموعة من الأسرى الانتقال من سجن لآخر فعوقبوا 53 يوما في عزل لا انساني".
والزنزانة حسب وصف الهشلمون عبارة عن مكان بطول مترين وعرض متر واحد وبفتحة في السقف، وهي مليئة بالحشرات وبلا إضاءة ولها باب من حديد، وبدون أدنى مقومات الحياة البشرية، ويمنع عن الأسير المحتجز بها الطعام إلا كميات قليلة جدا لتمنحه استمرار الحياة فقط.


50 عملية قمع منذ بداية العام
ويكشف الباحث في شؤون الأسرى عبد الناصر فروانة أن سياسة قمع الأسرى والاعتداء عليهم تصاعدت منذ بداية عام 2007 ووصلت إلى قرابة 50 اعتداءً قام بها وحدات "ناحشون ومتسادا" القمعية.
ويبين فروانة أن وحدات "ناحشون" و"متسادا" هي القوات الخاصة التابعة لمصلحة السجون الإسرائيلية، وشكلت خصوصاً منذ سنوات لقمع الأسرى، ومدربة جيدا ومزودة بأسلحة مختلفة منها الهراوات والغاز المسيل للدموع والرصاص الحارق، وفي أحيان كثيرة استخدموا الكلاب.
ويمتلك أعضاء ناحشون مهارات قتالية تقنية، وقد تلقى عناصرها تدريبات على أساليب خاصة لقمع الأسرى ومواجهة كافة حالات الطوارئ داخل السجون والمعتقلات بما فيها عمليات احتجاز رهائن. وتعمل تلك الوحدات 24 ساعة، وتستدعى على عجل عند حدوث خلاف ما ولو بسيطا بين الإدارة والمعتقلين العُزل الذين يناضلون لنيل حقوقهم.
بعد إعلان استشهاد الأسير محمد الأشقر، الذي كان يلازم عمار في قسمه، يقول عمار: "أصبنا بالفجيعة، حالة من الحزن والصدمة عمت كافة الأسرى في السجن.. وراح كل منا يفكر عن حالة عائلته، زوجته، أطفاله، أمه، ووالده وأشقائه...".
الانتقاد/ العدد1239 ـ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2007


2007-11-02