ارشيف من : 2005-2008
الإمام والنظام السياسي في الإسلام
بقلم: الشيخ محمد توفيق المقداد(*)
أثبت الإمام الخميني (قده) من خلال ثورته المباركة قدرة الدين الإسلامي العظيم على اختراق العصور والنفاذ اليها ليأخذ مكانه القيادي في حياة الأمة الإسلامية بشكل عام، وفي حياتها السياسية المرتبطة بإدارة قضاياها العامة بشكل خاص، وليلعب الإسلام دوراً مهماً ومؤثراً جداً في مجال السياسة الدولية مقابل الإيدلوجيات والفلسفات الأخرى التي انبثقت عنها الأنظمة الحاكمة على الساحة الدولية.
وكان بروز الإسلام بهذه القوة عن طريق الإمام الخميني (قده) عبر الانتصار على نظام الشاه، وإقامة نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، مستنداً في ثورته تلك الى فقه الإسلام السياسي من حيث النظرية، وطريقة التطبيق الواعي والمتناسب مع الواقع المعاصر، وليصبح الإسلام قبلة الشعوب الإسلامية بعد قرون من تغييبه، ولتأخذ منه منطلقاً لتجديد حركة التحرر من هيمنة القوى الاستكبارية.
ومنطلق النظام السياسي عند الإمام (قده) هو أن "سياستنا عين عبادتنا، وعبادتنا عين سياستنا"، فليس في الإسلام فصل بين الدين والسياسة، فالسياسة جزء لا يتجزأ من الدين، فضلاً عن أنها جزء من العبادة لله طبقاً لقوله تعالى "وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون".
وطرح النظام السياسي من جانب الإمام الخميني (قده) لم يكن ناتجاً عن حركة عفوية، بل عن دراسة معمقة للنصوص الشرعية في القرآن والسنّة وكلام الأئمة (ع)، والتي استنبط منها (قده) الركائز والأسس التي يقوم عليها "فكر الإسلام السياسي" على المستوى النظري، و"ممارسة الإسلام السياسي" على المستوى التطبيقي.
ومن خلال مراجعة التراث الفني الذي تركه الإمام الخميني (قده) في المجال السياسي يمكن أن تحدّد عناصر النظام السياسي بما يلي من العناوين:
العنوان الأول: "تحديد المرجعية السياسية للأمة": وهذا الخط هو الذي عبّر عنه الإمام من خلال نظرية "ولاية الفقيه العامة" التي تعني أن حاكمية ولي أمر المسلمين تشمل كل الوظائف التي كانت ثابتة للنبي (ص) والإمام المعصوم (ع) إلا ما أخرجه دليل خاص، ولا تقتصر الولاية عنده على القضاء والإفتاء والأمور الحسبية فقط، وتعني الولاية عنده أن الفقيه تمتد ولايته نظرياً وعملياً لتطال كل الشؤون المرتبطة بحياة المجتمع الإسلامي ككل، فيعمل على حفظ مصالح المسلمين ويدفع المفاسد عنهم، وإن كان الفقيه على مستوى الصفات الشخصية مختلفاً عن شخصية المعصوم (ع)، إلا أن ذلك الاختلاف لا يؤدي إلى فارق في الوظيفة تجاه الأمة الإسلامية.
وهذه الشمولية في ولاية الفقيه هي التي جعلت من كل الحركات الإسلامية الثورية المنتشرة في العالم تتقارب فيما بينها، كبديل عن التفرقة التي كانت تعيشها قبل انبعاث نظرية الولاية التي اتجه الجميع نحوها للانضواء تحت رايتها وقيادتها، أو على الأقل للتنسيق معها لأنها تشكّل إطاراً صالحاً موثوقاً ومؤتمناً وناصحاً ومرشداً.
ونظرية "ولاية الفقيه" التي طرحها الإمام الخميني (قده)ليست بدعة أو فكرة بعيدة عن الإسلام، بل هي من صميم هذا الدين العظيم، ولذا يقول الإمام (قده) "الذين يقولون إنه لا يوجد عندنا في الإسلام ولاية للفقيه، ليسوا مطّلعين ما داموا يقولون هذا، إن ولاية الفقيه كانت وما تزال منذ زمن رسول الله (ص) وحتى الآن". ويقول أيضاً "إن ولاية الفقيه هدية قد أعطاها الله تبارك وتعالى للمسلمين"، وهذه الهدية لا وجود لها في أي دين أو عقيدة غير الإسلام، لأن بإمكانها كما هو المفروض لها في الفكر الإسلامي أن تجمع كل المسلمين من كل القوميات واللغات والألوان بدون أية فوارق فيما بينهم، لأنها الحاضن والحامي والمدافع عن قضاياهم، وتعمل على حمايتهم من كل الأخطار طبقاً للمواصفات التي اشترط الإسلام توافرها فيمن يتولى هذا المنصب الخطير، الذي هو رأس الهرم في تراتبية المسؤولين عن شؤون الأمة الإسلامية.
العنوان الثاني: "تشكيل الحكومة الإسلامية": إذ من الواضح أن الحكومة في أي مجتمع هي ضرورة لا بد منها لإدارة شؤون الناس العامة، وولاية الفقيه تستدعي في الإسلام تشكيل هذه الحكومة، لأن الولاية لا تعمل في الفراغ، بل من خلال الحكومة التي تطبق النظم الإسلامية في كل المجالات التي تهم الأمة الإسلامية بإدارة وإشراف نظارة الولي الفقيه أو المؤسسات التي يحددها للقيام بذلك، ولا يمكن لحياة أي مجتمع أن تستقيم وتستقر بدون وجود حكومة تحقق الأمن والعدالة، وتوفر الفرص للجميع حتى لا يأكل القوي الضعيف ويستقوي الظالم على المظلوم.
وقد استدل الإمام الخميني (قده) على ضرورة تشكيل الحكومة في الإسلام بثلاثة أدلة نذكرها باختصار يناسب المقام.
1 - إن أول حكومة قامت في الإسلام هي حكومة النبي (ص) في مجتمع المدينة المنورة والتي امتدت سلطتها بعد فتح مكة إلى معظم أرجاء الجزيرة العربية واليمن.
2 - الإطلاق الموجود في أحكام الإسلام والذي يعني ضرورة العمل بهذه الأحكام في كل الأزمنة والى قيام الساعة، سواء في مجال العبادات أو المعاملات.
3 ـ إن هناك نوعاً من الأحكام في الإسلام لا يمكن تطبيقها والعمل بها من دون وجود حكومة إسلامية كالأحكام والقوانين الجنائية والجزائية وقرارات الحرب والسلم والأحكام المالية المرتبطة بالموازنة العامة للدولة الإسلامية.
ويقول الإمام الخميني المقدس في هذا المجال "... فالفقهاء العدول وحدهم هم الذين يقومون بتنفيذ أحكام الإسلام، وإقرار نظمه، وإقامة الحدود، وتنفيذ القصاص، وحراسة حدود الوطن الإسلامي وأراضيه، والخلاصة أن إجراء جميع القوانين ذات العلاقة بالحكومة هو في عهدة الفقهاء.. فكما كان الرسول الأكرم (ص) مسؤولاً عن تطبيق الأحكام، وإقامة أنظمة الإسلام، وقد جعله الله تعالى رئيساً وحاكماً للمسلمين، وأوجب عليهم طاعته، فالفقهاء العدول يجب أن يكونوا رؤساء وحكاماً، ومسؤولين عن تنفيذ الأحكام، وإقرار النظام الاجتماعي للإسلام".
ثم يوضح الإمام الخميني عاقبة عدم السعي لتشكيل الحكومة الإسلامية فيقول "إن الفقهاء يجب أن يكونوا رؤساء الأمة لكي لا يسمحوا باندراس الإسلام وتعطيل أحكامه، وبما أن الفقهاء العدول لم يقيموا الحكومة في البلاد الإسلامية، ولم يطبقوها، فقد اندرس الإسلام وتعطلت أحكامه، وتحققت كلمة الإمام الرضا (ع) "لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً حافظاً مستودعاً لدُرست الملة".
العنوان الثالث: "رفض التبعية": انطلاقاً من التلازم بين ولاية الفقيه والحكومة في الإسلام، فهذا يعني أن الإسلام يرفض تبعية المسلمين لأية جهة خارجة عن إطار دينهم وعقيدتهم لأن التبعية للآخرين تعني التخلي عن الإسلام كفكر ورسالة، أو التخلي عنه في المجال العملي والتطبيقي، وكلاهما لا ينسجم مع النظرية الإسلامية المتكاملة، ولذا كان شعار الإمام الخميني (قده) "لا شرقية، لا غربية، جمهورية إسلامية"، وقال في هذا المجال "إن واجبنا هو أن نقف في مواجهة المستكبرين، ولدينا القدرة على ذلك بشرط أن يتخلى المثقفون عن الشرق والغرب، وعن التشرق والتغرب، وأن يتبعوا الصراط المستقيم للإسلام والأمة، فنحن في صراع مع الشيوعية بنفس المقدار الذي نكافح فيه ضد ناهبي العالم بزعامة أميركا". ويقول (قده) أيضاً "إن سياستنا مبنية على أساس حفظ الحرية والاستقلال وحفظ مصالح الناس، ولن نضحي بهذا الأصل من أجل أي شيء آخر".
ومن هنا كان الإمام (قده) يرى أن أغلب مصاعب ومشاكل العالم الثالث المستضعف بالخصوص ناتجة عن هذه التبعية التي تخلت فيها الشعوب ومنها العربية والإسلامية عن عقائدها على أمل تحقيق الأهداف التي تسعى اليها، بينما أدت هذه التبعية إلى إشعال الفتن والحروب والدمار بين تلك الشعوب، وإقامة أنظمة ديكتاتورية وظالمة لشعوبها من أجل حفظ مصالح القوى الاستكبارية ومنافعها ولو على حساب جوع وألم وظلم تلك الشعوب الذي ما زال يحصل حتى يومنا هذا، ولذا كان يؤكد الإمام (قده)على شعار رفض التبعية وقال "حافظوا على سياسة لا شرقية ولا غربية في كل المجالات الداخلية والعلاقات الخارجية".
العنوان الرابع: "وحدة الأمة الإسلامية": وهذه الوحدة يراها الإمام (قده) من أهم العناصر والركائز في النظام السياسي للأمة مع تنوع اللغات والأعراق والقوميات، فالمشروع الإسلامي العام والكبير لا يمكن أن ينتصر ويتحقق في ظل الخلافات المذهبية والطائفية والقومية والعرقية واللغوية فيما بين المسلمين الذين كان ينبغي أن يكون الإسلام قد أذاب خصوصياتهم كلها تحت لواء "كلمة التوحيد" التي تدعو إلى "توحيد الكلمة" ليكون المسلمون جميعاً يداً واحدة وقلباً واحداً وموقفاً موحّداً في مواجهة الأعداء من أي نوع كانوا، وأما إذا بقي المسلمون متفرقين وممزقين فهذا يشكل خطراً على الأمة من داخلها، كما يضعفها عن مواجهة الأعداء من الخارج، ولذا يقول الإمام (قده) "لو اتحد مليار مسلم في العالم فإن الشرق والغرب لن يستطيعوا فعل شيء"، ومن هنا كان ينتقد الدول العربية والإسلامية التي تنفصل عن الأمة لترتبط بالغرب أو بالشرق وقال "لماذا تمسّك كل منكم ـ الأنظمة ـ بفرع أو التفت إلى الشرق أو إلى الغرب؟ لماذا لا تعتصمون بحبل الله معاً؟".
فوحدة المسلمين عنصر مهم جداً من عناصر النظام السياسي عند الإمام (قده)، لأن هذه الوحدة قد أثبتها الله في كتابه الكريم بقوله تعالى "وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون"، "وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون"، وكذلك في قول رسول الله (ص) "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
من هنا كان يؤكد الإمام (قده) على نبذ التفرقة بين المسلمين وكان يرى أن كل من يبث التفرقة بينهم هو إما عميل للقوى الاستكبارية أو متعصب جاهل لا يدري أنه بعمله هذا يدمر وحدة المسلمين ويحطم آمالهم ويوهن عزائمهم في مواجهة أعداء الأمة كلها، ولذا كان يقول (قده) "علينا نحن ـ السنّة والشيعة ـ أن نتآخى فيما بيننا لنقطع الطريق على الساعين لنهب ما لدينا".
وقد استطاع الإمام (قده)أن يوحد الشعب المسلم في إيران بكل ما يضمه من مذاهب وطوائف إسلامية في مواجهة عميل أميركا في المنطقة "الشاه المقبور" وانتصر بتلك الوحدة على ذلك النظام، وطلب من الشعوب العربية والإسلامية أن تحذو حذو إيران اذا أرادت أن تصل إلى الوحدة المنشودة في مواجهة أعداء الأمة الذين مزقوها إلى كيانات وطنية ضيقة وأثاروا العديد من الخلافات بينها حتى لا تتفق، كما جعلوا من كل كيان وطني مزيجاً من العديد من المذاهب والقوميات من أجل ضمان عدم استقرار تلك الكيانات اذا شعر المستكبرون أن مصالحهم في عالمنا هي في خطر الانحسار أو الزوال عبر إثارة النعرات والفتن المذهبية والقومية كما نرى اليوم بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
ولا شك أن وحدة الأمة الإسلامية وجعلها مرتكزاً من مرتكزات النظام السياسي في الإسلام قد استفادها الإمام (قده) من الآيات القرآنية الناهية للمسلمين عن الاختلاف والتفرقة كما في قوله تعالى "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، ثم يدعوهم في آية أخرى إلى الاعتصام بحبل الله فيقول عز وجل "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا".
ان هذه العناوين الأربعة تشكل العمود الفقري للنظام السياسي في الإسلام، ويتفرع عن كل واحد منها الكثير من العناوين التي لا مجال لذكرها لأنها تفاصيل داخل العنوان الواحد، وتحتاج إلى مقام غير هذا للحديث عنها.
وقد عمل الإمام الخميني (قده) على إيصال هذا النظام إلى الشعب المسلم في إيران، وكل الشعوب الإسلامية لكي يكون البديل عن كل الأنظمة التي كانت تحكمهم ولم تجلب لهم ما كانوا يأملون، بل على العكس أدّت إلى حصول مآسٍ وانتكاسات دفع المسلمون أثماناً غالية لها من دمائهم وهنائهم وسعادتهم ومن حاضرهم ومستقبلهم، ووصلوا إلى درجة من اليأس والإحباط دفعتهم إلى القعود عن مواجهة الذين أوصلوهم إلى تلك الحال.
ومن هنا تميز خطاب الإمام الخميني المقدس إلى الشعب المسلم في إيران والى الأمة الإسلامية كلها بأنه كان تعبوياً بامتياز، وموجهاً بامتياز وشاملاً لكل شرائح الشعب والأمة ببساطته وقوة بيانه ووضوح مطالبه وأهدافه، لأن الإمام (قده) كان يرى أن تعبئة الجماهير من خلال فضح ممارسات الحكام الجائرين والظالمين، بالتزامن مع طرح البديل الصالح وهو "الإسلام المحمدي الأصيل" كفيل بإحداث تغيير في نظرة المسلمين إلى الأنظمة والحكام، وهذا ما حصل في إيران حيث كان تركيز الإمام (قده)عليها، لأن الشعب المسلم هناك كان يتفاعل بكل فئاته مع خطابه (قده)، ولأن الإسلام يحتاج إلى قاعدة ينطلق منها إلى كل المسلمين الآخرين في العالم ومن ورائهم كل المستضعفين والمقهورين في العالم على أيدي القوى الاستكبارية في العالم وفي مقدمتها "الشيطان الأكبر" أميركا.
وقد تميز خطاب الإمام التعبوي أيضاً بالثقة بالجماهير المسلمة على إحداث التغيير، وكان يزرع فيها القوة والعزيمة والإرادة الراسخة لكي لا تنهزم أمام ظلم وجور الحكام الذين كانوا أشداء على شعوبهم الإسلامية ومنهزمين أمام أميركا و"إسرائيل" الكيان الغاصب للقدس وفلسطين، وكان خطاب الإمام التعبوي يزرع الأمل بالمستقبل الواعد والسعيد في رحاب دين الله، ولذا كان يقول(قده) "إن نضالاتنا وطنية عقائدية، والجهاد في سبيل الله والعقيدة لا يقبل الهزيمة ـ النصر أو الشهادة ـ وهو يعبئ كل أنحاء الوطن في اتجاه واحد، ويزيح من أمامنا جميع المشكلات".
وقد تميز الخطاب التعبوي للإمام (قده) بتحميل مسؤولية الثورة لكل طبقات المجتمع، واعتبرها شريكة وأساساً في المواجهة والتحرك، فليست الثورة حكراً على فئة معينة دون غيرها، ولذا كان يقول (قده) "إذا أراد شعبنا الشريف أن ينتصر في هذه الثورة فعليه أن يستعد، ويبادر إلى العمل من داخل الجامعات إلى الأسواق والمعامل والمزارع والحقول حتى الوصول إلى الاكتفاء الذاتي والوقوف على قدميه"، وما ينطبق في هذا المجال على الشعب المسلم في إيران في خطاب الإمام التعبوي يشمل كل الشعوب العربية والإسلامية لأنها تعيش نفس الظروف والأوضاع في مواجهة الأنظمة التي تحكمها.
(*) مدير مكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي في لبنان
الانتقاد/ العدد1247 ـ 28 كانون الاول/ ديسمبر2007