غزة ـ منى حرب
الشهيد علي الصوفي
|
حذاؤه وبعض الحاجيات وقطع من ملابسه الممزقة وفتات لحمه المتناثر في أرجاء المكان..
هي جملة ما تبقى من حاجيات الشهيد الشاب علي الصوفي الذي بلغ عقده الثاني قبل أيام من سقوطه مضرجاً بدمائه في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي حيث استشهد في جريمة إعدام ممنهجة نفذتها قوة خاصة صهيونية في محيط حي النهضة شرق محافظة رفح جنوب قطاع غزة، وتحديداً على الحدود مع الخط الأخضر وأراضي 48 المحتلة.
بعد أن اصطبغ العشب الأخضر الذي سقط عليه بدمه القاني إثر إصابته برصاصة قناص صهيوني في رأسه، تُرك ذلك الجسد النحيل يسبح ببركة الدماء الحمراء.
الشهيد علي وأربعة آخرون من أبناء الجيران فروا أثناء عملية توغل محدودة للمنطقة ليكونوا بمأمن من شر عدوهم، وكانوا جميعا صيدا سهلا للأفاعي الصهيونية، ثلاثة منهم نالهم من الاعتقال نصيب، أما هو فذهب أدراجه يحمل على كفه روحه مودعاً أمه الثكلى وهي تحمل بين أحضانها ما تبقى لها من مهجة قلبها الذي توسمت فيه الخير بعد أن فقدت ثلاثة من أشقائه بسبب مرض أصابهم في صغرهم ليكمل أكبرهم السبعة أشهر قبل أن تتوفاه المنية لترزق فيما بعد بكمال الطفل الكبير.
وبرغم سني عمره التي قاربت الثلاثين إلا أنه يعاني من تخلف عقلي افقده منذ اللحظة الأولى لوجوده على قيد الحياة القدرة على النطق والحركة لفترة ما في عمره، ليبدأ بعد ست سنوات بإظهار رد فعل ايجابي كباقي الأطفال. لكنه هو الآخر كان عرضة للمرض وربما لاحقه الموت، ومع ذلك فإنه آخر ما تبقى لتلك السيدة الخمسينية ذات البشرة الحنطية الضاربة على لون حياتها البدوية بعد أن رسم الدهر على محياها عشرات الخطوط لتخط بدموعها التي تساقطت من جفنها المتهالك من كثرة ما تكسرت على عتباته آهات سطور عذابها، وليكن فقدنها لأعز أبنائها "علي" العنوان الأبرز في رحلة العذاب التي بدأت منذ الصفر لتبدأ العد التنازلي وربما التصاعدي لبداية نهاية حياة أبنائها، ولتبقى وحيدة بعد أن فقدت بصيص الأمل الذي كانت تنظر إليه من نافذة غرفة منزلها الأسبستي المكون من ثلاث غرف، تبقى لتروي مع جدران ذلك المنزل حكاية امرأة معاصرة لمنابع العذاب في هذه الدنيا.
عائلة أبو كمال حاصرها العدو والمرض حتى باتت لا ترى سوى الموت طوقا للنجاة من عذاب نالته عبر جرعات مقسمة تدريجا.
فقد حل المساء المظلم على بيت عائلة أبو كمال الصوفي ليزيد من وحشة وظلمة البيت، وبأيد مرتجفة أشعلت أم كمال (50 عاما) أضواء البيت لعلها تشتت شيئا من وحشته وظلمته، وهي تبحث بعينيها الزائغتين عن طفلها "كمال" الذي ما زال ينال جل اهتمامها برغم كبر سنه.
كانت بداية حكايتها فقدانها لأربعة من أطفالها بسبب مرض وراثي قضى عليهم وهم أطفال رضع مرورا بكمال المتخلف عقلياً، وأخيراً استشهاد علي أحب أبنائها على قلبها بيد قوات الاحتلال..
أم كمال التي تحدثت إلينا وهي تسرد قصة مأساتها قالت "منذ أن ولدت والحسرة تلاحقني، فبعد زواجي قبل نحو أربعين عاما أنجبت طفلي البكر أيمن الذي لم ينعم بالحياة، ولم ارضعه يوما مما ألهمني به الخالق، فقد توفي وهو ابن الخمسة أشهر، لا نعرف حتى اللحظة ما السبب ولكن هذا قدرنا".
مستدركة القول بعد أن تناولت منديلها الذي اهترأ من كثرة ما مسحت به دموعها المتساقطة وبعد أن تنفست الصعداء وهي تروي قصة فقدانها لفرحتها الأولى، استرسلت: "اعتقدت أنها آخر الأحزان كما يقال، لكن الله قدر لنا أن نعيش الحياة بحلوها ومرها حيث أنجبت كمال الطفل الكبير، الذي كان له قصة مختلفة مع المرض فبعد ست سنوات من ولادته تيقنت انه لا يسمع ولا يتكلم ولا يقوى حتى على الحركة، إضافة إلى نقص الدم واحتياجه لنقل صفائح".
وأضافت: "12 عاماً بعد أن بدأ كمال يخطو بقدمه على الأرض وأنا انتقل معه من شارع لآخر خشية عليه من الضياع في احد شوارع المدينة لأنه كان يذهب ولا يعرف طريق العودة".
وحول حادثة فقدان العصفور الثالث أياد (7 أشهر) قالت الحاجة عائشة التي سخرت من اسمها لدلالته على دوام الحياة لها، لأنها تعتقد أنها بقيت لتنال من العذاب جرعات مضاعفة: "لم تختلف حادثة إياد عن أخيه البكر بفارق أن الأخير استطاع الأطباء تشخيص مرضه على انه نزلة معوية فارق على إثرها الحياة بعد ارتفاع درجة حرارته لأكثر من 40 درجة مئوية".
تركتنا الحاجة عائشة تهيم في حزنها وذهبت لتجلس مع زوجها الكهل حول موقد النار المنصوب في بيت الشعر الموجود في ساحة المنزل، تبعناها لتواصل لنا سرد معاناتها.
تناولت عودا من الخشب كان عند طرف ثوبها البدوي وأخذت تقلب به النار وقالت: "احترق قلبي للمرة الثالثة كهذه النار".
جذبتنا حكايتها فآثرنا مواصلة سماع القصة، بل وربما المأساة التي أشرفت على النهاية قبل أن يسدل الستار مع غياب علي عن الحياة.
وبعبارات حبستها العبرات المصحوبة بالدموع قالت أم كمال: "ذهب نور عيني، فهو الوحيد الذي توسمت فيه الخير، فقد كان قمة في الأخلاق والتدين والعلم، كان مشهودا له ذلك من كل من عرفه الغريب قبل القريب".
وهنا لم تتمالك أم كمال دموعها ولم تستطع أن تحبسها فهي حتى اللحظة ما زالت تكتوي بنار فراقه، فلا تكد تمر عليها لحظة دون أن تراه يسير أمامها حتى باتت عرضة للعلاج لدى الاختصاصيين النفسيين.
لم يكن علي الوحيد الذي لقي حتفه في تلك المنطقة، فالعشرات من المواطنين الفلسطينيين القاطنين على الحدود مع الخط الأخضر وأراضي 48 على طول الشريط الحدودي المحتل مع قطاع غزة من أقصى شماله حتى جنوبه في معاناة تتكرر يوميا في ظل انتهاكات تمارس بحق المدنيين في تلك المناطق.
عائلة أبو كمال لم يكن الموت وحده الوحش الذي غرس أنيابة بقوة في جسدها، فقلة الحال وضعف القدرة على امتلاك أدنى متطلبات الحياة وتزايد احتياجات المعيشة المتزايدة بصورة مضاعفة بشكل يومي في ظل الحصار المفروض على الفلسطينيين في قطاع غزة دفعتهم إلى الاكتفاء بالزيت والسعتر كوجبة رئيسية لعلهم بذلك يريدون إيصال رسالة بأن وجودنا على هذه الدنيا أصبح بلا منفعة ترجى منه، ولسان حالهم يقول "رحلتنا الأخيرة ستبدأ صوب الهاوية"، فالموت يقتحم بلا موعد ويدخل بلا استئذان!!
الانتقاد/ العدد1247 ـ 28 كانون الاول/ ديسمبر2007