ارشيف من : 2005-2008
نداء ولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد علي الخامنئي إلى حجاج بيت الله الحرام
مراسم البراءة من المشركين في صحراء عرفات اليوم الثلاثاء.
وفيما يلي نص النداء الذي نشره موقع مكتب سماحة القائد آية الله العظمى السيد علي الحسيني الخامنئي :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد المصطفى و على آله الأطيبين و صحبه المنتجبين
السلام على حجاج بيت الله، ضيوف بيت الحبيب، والملبين لدعوته.. و تحيات عطرة إلى القلوب الطرية النضرة بذكر الله المفتوحة أبوابها على فيضه العميم و رحمته السابغة, فخلال هذه الأيام و الليالي و الساعات الإكسيرية، ماأكثر أولئك الذين قدّروا الموقف حق تقديره فسلّموا أنفسهم إلى أجواء الانجذاب الروحي، لينوّروا صحائف قلوبهم و أرواحهم بالإنابة والتوبة، ويزيلوا صدأ الذنوب والشرك من وجودهم بالغوص في أمواج الرحمة الإلهية التي ما انفكت تتواصل في هذا الوادي المقدس, فسلام الله على هذه القلوب النبيهة و أصحابها الأطياب .
يجدر بجميع الإخوة و الأخوات أن يفكروا في مثل هذا المكسب، و أن يغتنموا هذه الفرصة الثمينة, فلا يسمحوا لعلائق الحياة المادية ـ التي تشكل همّنا المستمرـ أن تشغل و تُلهي القلوب، وأن يطيروا بقلوبهم المتشوقة في فضاء التوحيد والقيم الروحية الأصيلة، مستعينين بذكر الله و بالإنابة و التضرع إليه، و بالعزيمة الراسخة على الصدق والاستقامة في العمل و التفكير، ليتزوّدوا بذلك، من أجل الصمود والمثابرة في سبيل الله و الصراط المستقيم .
هنا مثابة التوحيد الحقيقي الخالص, هذا هو المكان الذي جاء فيه إبراهيم الخليل عليه السلام بفلذة كبده إلى المذبح، كي يسجل لجميع الموحدين على مرّ تاريخ العالم رمزا للتوحيد، يتمثل في الغلبة على النفس و التسليم التام لأمر الله, و هنا المكان الذي رفع فيه سيدنا محمد المصطفى ـ صلى الله عليه وآله ـ راية التوحيد أمام المستكبرين و أصحاب المال و السلطة من أهل زمانه, و اعتبر البراءة من الطاغوت ـ بجانب الإيمان بالله ـ شرطا للنجاة و الفلاح : فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى...
إن الحج هو إعادة قراءة هذه الدروس العظيمة و تعلّمها, إن البراءة من المشركين و من الأصنام و صنّاعها، تشكل الروح المسيطر على حج المؤمنين, إن الحج بكل مواقفه و مواقعه، يجسد حقيقة الخضوع لله و العمل في سبيله، و البراءة من الشيطان و رميه و رفضه و التصدي له, كما أن الحج بكل تفاصيله، يشكل رمز الوحدة و التلاحم بين أهل القبلة، وانتفاء فوارقهم الطبيعية و الاعتبارية، و تبلور وحدتهم الحقيقية وأخوتهم الإيمانية .
إنها دروس، علينا ـ معشر المسلمين في كل أرجاء العالم ـ أن نتعلمها و نبرمج حياتنا و مستقبلنا على أساسها .
لقد أكد القرآن الكريم على الوقوف بقوة و اقتدارأمام الأعداء، و التعامل بالعطف والمحبة بين المؤمنين، و العبودية و الخشوع أمام الله، و ذلك كمؤشرات ثلاثة للمجتمع الإسلامي :
محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا ... فهذه الأركان الرئيسية الثلاثة هي من أجل بناء كيان الأمة الإسلامية المرتكز علي العز و المجد, علي ضوء هذه الحقيقة، يمكن للمسلمين بجميع أفرادهم، أن يتعرفوا جيدا على ما يعانيه العالم الإسلامي وما يعتريه من مشاكل في الوقت الراهن .
إن عدو الأمة الإسلامية الغادر، يتمثل اليوم في الرؤوس المديرة للمراكز الاستكبارية والقوى ذات النزعة التوسعية والعدوانية، ممن يعتبرون الصحوة الإسلامية تهديدا كبيرا لمصالحهم اللامشروعة وسيطرتهم الغاشمة على العالم الإسلامي, إنه على جميع الشعوب المسلمة ـ و في مقدمتهم السياسيون وعلماء الدين والمثقفون والقادة الوطنيون في كل دولة ـ أن يشكّلوا الصف الإسلامي الموحد بالمزيد من القوة والصلابة أمام هذا العدو المعتدي, عليهم أن يجمعوا في أنفسهم كل عناصر القوة وأن يجعلوا الأمة الإسلامية قوية فعلا, إن التحلي بالعلم و المعرفة، والحكمة والتدبير و اليقظة، والشعور بالمسؤولية والالتزام بها، والاتكال على الله والأمل في الوعد الإلهي، وغض الطرف عن المطالب التافهة الحقيرة أمام نيل رضا الله والعمل بالواجب، ... كل ذلك يعتبر العناصر الرئيسية لقوة الأمة الإسلامية واقتدارها، مما يحقق للأمة ما تصبو إليه من عزّ واستقلال وتقدم في المجالين المادي والمعنوي، ويُفشل العدو في محاولاته التوسعية وتطاوله على الدول الإسلامية .
إن عنصرالعطف والرأفة بين المؤمنين، يشكل الركن الثاني و يعتبر مؤشرا آخر للحالة المنشودة للأمة الإسلامية, فإن نشوب الفرقة والصراع بين صفوف الأمة، يعتبر مرضا خطرا يجب العمل على علاجه بكل ما هو متوفر من قوة. لقد بذل أعداؤنا ـ و منذ أمد بعيد ـ جهودا كبيرة وحثيثة في هذا المجال, و إنهم قد زادوا من جهودهم اليوم، بعد أن أخافتهم الصحوة الإسلامية, كل ما يقوله المشفقون هو أنه يجب ألا تتحول الفوارق إلى تناقضات، ولا التعددية إلى صراع .
لقد سمّي الشعب الإيراني هذا العام عام الانسجام الإسلامي, وجاءت هذه التسمية بسبب وعيه بمؤامرات الأعداء المتصاعدة لبثّ الخلاف بين الإخوة والأشقاء, هذه المؤامرات باتت فاعلة في كل من فلسطين ولبنان والعراق وباكستان وأفغانستان، حيث شهدنا أن بعض أبناء دولة مسلمة دخلوا في حرب وصراع ضد بعضهم الآخر، ويريقون دماء بعضهم, في جميع هذه الأحداث المُرّة المأساوية، كانت علائم المؤامرة واضحة، ولم تبق يد العدو خافية من العيون الدقيقة و الأبصار الحادة .
إن معني الأمر القرآني المتمثل في: "رحماء بينهم" هو اجتثاث جذور هذه الصراعات, إنكم في هذه الأيام المباركة وخلال جميع مناسك الحج، تشاهدون المسلمين ـ من كل مكان و من مذاهب مختلفة ـ وهم يطوفون حول بيت واحد، و يصلّون باتجاه كعبة واحدة، و يرجمون ـ جنبا إلى جنب بعضهم ـ رمز الشيطان الرجيم، و يتصرفون بنمط واحد عند ذبح الأضاحي كرمز للتضحية بالأماني والأهواء النفسانية، و يبتهلون إلى الله جنبا إلى جنب سواء في عرفات أو في المزدلفة... إن المذاهب الإسلامية متقاربة إلى بعضها بنفس الدرجة في معظم الفرائض والأحكام والعقائد الرئيسية وأهمّها, وطالما الأمر كذلك، فلماذا تأتي العصبيات والأحكام الصادرة مسبقا لتؤجج نارالفتنة بينهم، وتأتي أيدي العدو الآثمة لتصب الزيت على هذه النار التي تقضي على الأخضر واليابس؟
اليوم، هناك من يتذرع بحجج واهية، وبدافع من الجهل وقصر النظر، ليرمي جماعة كبيرة من المسلمين بالشرك و يبيح دماءهم, إن هؤلاء يخدمون الشرك و الكفر و الاستكبار سواء أكان ذلك عن وعي أو من دون وعي, فكم شهدنا الذين اعتبروا احترام روضة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله ومشاهد الأولياء وأئمة الدين عليهم السلام شركا وكفرا، رغم كون ذلك تعظيما لأمر الدين والتدين، لكنهم بدورهم انخرطوا في خدمة الكفرة و الظالمين و ساعدوهم على تحقيق أهدافهم الخبيثة .
على العلماء الحقيقيين والمثقفين الملتزمين والقادة المخلصين أن يقوموا بمكافحة هذه الظواهر الخطرة, إن أمر الوحدة والتلاحم في الصف الإسلامي يشكل اليوم فريضة حتمية يمكن انتهاج الطرق العملية المؤدية إليها بفضل تعاون العقلاء و المشفقين .
إن هذين الركنين الذين تقوم العزة عليهما ـ أي تحديد المواقع و اتخاذ الموقف القوي الحاسم أمام الاستكبار من جهة، والتراحم والتقارب والتآخي بين المسلمين من جهة أخرى ـ عندما يقترنان بالركن الثالث، وهو الخشوع والتعبد أمام الربّ جل وعلا، فعندئذ ستتقدم الأمة الإسلامية مرحلة تلو الأخرى في نفس الطريق التي أدّت بمسلمي العهد الإسلامي الأول إلى ذروة العزّ والعظمة، وستتخلص الشعوب المسلمة من التخلف المُزري الذي فُرض عليها خلال القرون الأخيرة, لقد بدأت تباشير هذه الحركة العظيمة في الظهور، وتحركت تيارات الصحوة بشكل أو بآخر في كل أرجاء العالم الإسلامي, و تحاول وسائل إعلام العدو و عملاؤه الإيحاء بأن أي حركة تحررية أو مطالبة بالعدالة في أي بقعة من العالم الإسلامي مرتبطة بإيران أو بالتشيع؛ كما يحاولون أن يحمّلوا إيران الإسلامية الرائدة في حمل راية الصحوة الإسلامية بنجاح، مسؤولية الضربات التي يتلقونها في الساحة السياسية أو الثقافية من قبل غياري الأقطار الإسلامية, إنهم يوجهون تهما من قبيل الانتماء لإيران أو التشيع إلى الملحمة البطولية التي سطرها حزب الله بما ينقطع نظيره خلال حرب الـ33 يوما، و إلى صمود الشعب العراقي المصحوب بالتدبير والحكمة والذي أدى إلى تشكيل مجلس وحكومة لم يكن المحتلون يريدونهما بهذه الشاكلة، و إلى ما أبدته الحكومة الشرعية في فلسطين والشعب الفلسطيني المضحّي من صبر و صمود يبعثان على الإعجاب، وإلى كثير من الحالات التي تمثل إرهاصات تجديد حياة الإسلام في الدول الإسلامية, إنهم يوجهون هذه الاتهامات لإرباك العالم الإسلامي ومنعه من اتخاذ موقف مؤازر موحد, إلا أن هذا الخداع لن ينجح في مواجهة السنة الإلهية القاضية بانتصار المجاهدين في سبيل الله و أنصار دينه .
إن المستقبل للأمة الإسلامية, و إن كل واحد منا ـ حسب قدراته و طاقاته و مسؤوليته ـ يستطيع بدوره أن يساهم في تقريب أجل هذا المستقبل .
إن مناسك الحج، بالنسبة لكم أيها الحجاج السعداء، يمثل فرصة كبيرة لتستعدّوا أكثر من ذي قبل لأداء هذا الدين, آملا أن يحالفكم التوفيق الإلهي و تشملكم دعوات سيدنا المهدي الموعود ـ عجل الله له الفرج ـ في تحقيق هذا الهدف العظيم .
والسلام عليكم و رحمة الله وبركاته
السيد علي الحسيني الخامنئي
4 ذي الحجة لعام 1428 للهجرة .