ارشيف من : 2005-2008
المعارضة في عام: أضربت وحاورت وتعاونت وما زالت صامدة
انتهت سنة 2007 كما بدأت، وعاد الثلث الضامن الى واجهة الخلاف السياسي المحتدم بين المعارضة والفريق المستأثر بالسلطة، ليشكل في العام 2008 الحد الفاصل في انتقال لبنان من الوصاية الأميركية الى السيادة الوطنية.
خلال سنة مضت من الأحداث حققت المعارضة الوطنية انجازات سياسية لعل أهمها على الإطلاق، احتواء كل المحاولات الهادفة الى جر اللبنانيين نحو حرب أهلية لطالما لوحت بحصولها الولايات المتحدة الأميركية ومعها فرنسا.
وقد نجحت المعارضة في تغليب اللغة الديمقراطية على نهج التهديد، من خلال اعتصامها السلمي المستمر منذ أكثر من سنة في وسط بيروت للمطالبة بالمشاركة السياسية في السلطة، ولإقناع فريق الموالاة بالتخلي عن الاستئثار بالحكم، والتوقف عن ضرب مرتكزات الميثاق الوطني والعيش المشترك.
ويُسجل للمعارضة ديمومة الاعتصام، وتنوع القوى المشاركة فيه، وتحويله الى منصة سياسية يومية، استمرت لأشهر عدة دون انقطاع عبرت فيها الكلمات عن رغبتها في تعميق الحوار الوطني الداخلي ورفض التدخل الأجنبي في الحياة السياسية ولا سيما في توجيه مواقف فريق 14 شباط من القضايا الوطنية المصيرية مثل المشاركة، وادارة العمل الحكومي، والتعيينات الادارية، وعقيدة الجيش، والعلاقة مع سوريا، ومستقبل المقاومة وسلاحها.
اعتمدت المعارضة في تحركها لمواجهة الفريق المستأثر بالسلطة على جمهورها العريض وأثبتت في 23 كانون الثاني انها تتمتع بالأكثرية الشعبية، وانها قادرة على الامساك بالوطن من جنوبه الى شماله مروراً بجميع المدن والبلدات.
كان اضراب 23 كانون الثاني رسالة بالغة الأهمية الى من يعنيه الأمر، ولعل البند الأهم في الرسالة هو سحب المعارضة ثقلها من الشارع، والعودة الى لغة السياسة، لكن فريق السلطة اختار سلوك التخريب لمنع الإضراب من التعبير مدنياً عن رفضه منطق السلطة، ولجأ الى السلاح في أكثر من منطقة لتفريق المتظاهرين، وأكد رد الفعل العنيف للموالاة أنها لا تُحسن القراءة، وضعيفة النظر، وتُضمر النوايا السيئة للوطن، وتعمل لمصلحة الأجنبي.
ردت قوى السلطة على اضراب 23 كانون الثاني بفتح النار على الطلاب والجيش في الجامعة العربية ومحيطها، في حادثة اعتبرت الأخطر من نوعها بعد قتل الشاب احمد محمود قرب منطقة قصقص لارهاب جمهور المعارضة وقطع الطريق على رياض الصلح، والأهم من ذلك كله جر المعارضة الى اشتباكات مسلحة واشعال الفتنة بين اللبنانيين. تلك الفتنة التي دفنها في مهدها في ذلك الوقت الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله عندما أعلن ان المعارضة لن تنجر الى الفتنة حتى لو قتلوا ألف أحمد محمود.
مجدداً، احبطت المعارضة فتنة السلطة، أمام الجامعة العربية، عندما فضحت بالصور الحية مجموعات من القناصة تموضعت فوق سطوح بعض الأبنية في الطريق الجديدة، وراحت تغتال المواطنين وعناصر من الجيش اللبناني في مشهد كان المقصود منه اعادة شريط الحرب اللبنانية، أولاً، والرد على تظاهرة 23 كانون الثاني 2007 بتقسيم بيروت طائفياً، إلا ان التزام المعارضة باجراءات الجيش ولا سيما حظر التجوال فوت الفرصة على الموالاة، وأرغمها على الانكفاء والعودة الى اشاعة مناخات التهدئة.
لم تدم هدنة أوائل شهر شباط طويلاً، وإن كانت المعارضة قد تعاملت معها بايجابية، ورحبت بالتحرك العربي عبر امين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى، وتبين ان اشاعة اجواء التهدئة كانت مرتبطة بتمرير الذكرى السنوية الثانية لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهي ذكرى استغلها فريق الموالاة، ولا سيما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، فقد شن الأول هجوماً على سوريا ورئيسها بشار الأسد بشره فيه باقتراب قيام المحكمة الدولية وحكم الاعدام، فيما هاجم الثاني الرئيس اميل لحود وذكر المعارضة بتاريخه القائم على الخيل والبيداء والسيف والبندقية.
وكعادتها واجهت المعارضة غوغائية الموالاة بالحكمة والموعظة الحسنة، والدعوة الى الحوار، وشكل البيان المشترك لأمين عام حزب الله، ورئيس التيار الوطني الحر لمناسبة مرور سنة على توقيع السيد حسن نصرالله والجنرال ميشال عون على وثيقة التفاهم نقطة بيضاء في سجل المعارضة، حيث جدد البيان الدعوة الى الشراكة الحقيقية والديموقراطية التوافقية على قاعدة مسلّمات واضحة في الهوية والسيادة والعلاقات الخارجية، وبناء ثقافة حوارية بعيدا عن منطق الاستئثار والغلبة والاستقواء بالخارج وتطويع مقدرات الدولة والوطن لأغراض خاصة وضيقة.
إن التفاهم القائم بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" لم يعد تفاهما بين تيارين شعبيين عريضين، إنما تحول نهجا اجتماعيا يعزز مناخات الثقة والأمل ببناء لبنان العزيز والمزدهر غير القابل للتجزئة أو الاحتلال أو التفرد، وهو بالتالي يشكل مدخلا ضروريا لأي تفاهم وطني واسع.
اتخذت الموالاة من المحكمة الدولية عنوانا لانقسام وطني، وصنفت المعارضة التي تُطالب بمحكمة جنائية لا سياسية بأنها ضد كشف "الحقيقة"، وتعاملت المعارضة مجدداً بحكمة مع المُراسلات السرية لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة الى الجامعة العربية والأمم المتحدة التي تتهم الرئيس نبيه بري بتعطيل البرلمان واقفاله في وجه اقرار المحكمة الدولية خصوصاً، ومنع النواب من انتخاب رئيس للجمورية، كما تطرقت الرسائل الى توجيه قوات اليونيفيل في الجنوب بوضع نقاط اعتلام جديدة.
ذهبت الموالاة الى الفصل السابع لاقرار مشروع المحكمة الدولية بعدما نجحت المعارضة في نزع فتيل "استخدام القوة" منه، الذي كاد يفجر لبنان ويفتح أبوابه أمام وصاية دولية معروفة النتائج.
وفي السياسة أيضاً خاضت المعارضة ممثلة بالتيار الوطني الحر مواجهة ساخنة في بداية الصيف وقررت المشاركة في الانتخابات الفرعية في المتن التي أقرتها الحكومة برغم ملاحظات المعارضة على شرعية القرارات الحكومية، وبالرغم من ذلك، تمكن التيار من ايصال مرشحه الى البرلمان، وسجل انتصاراً شعبياً على الحشد الكبير الذي وقف وراء مرشح الموالاة الرئيس امين الجميل، وهو حشد استحضر خطاب الفتنة، والحرب، والتهديد بالماضي الأسود للقوات اللبنانية ولحزب الكتائب.
في نهاية شهر آب جدد الرئيس بري دعوة المعارضة الى تدخل الجامعة العربية بالرغم من ان الجولات السابقة لأمين عام الجامعة العربية وصلت الى حائط الموالاة المسدود، وطرح مبادرة سياسية متوازنة تسمح بحصول انتخابات رئاسة الجمهورية في موعدها، وحل شرعية الحكومة، إلا ان الموالاة التي كانت ترى في مبادرات المعارضة للحل دليل ضعف رفضت مبادرة بري، وأعلنت انها ذاهبة الى الانتخابات الرئاسية بفريد مكاري مكان الرئيس بري وبالنصف زائد واحد مكان أغلبية الثلثين.
مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي، دخلت فرنسا على خط الوساطات، متسلحة بتفويض أميركي لتأمين وصول رئيس للجمهورية الى قصر بعبدا، لكن جولات وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير اصطدمت مجدداً بتعنت فريق السلطة الذي رفض التفاهم المسبق على ما بعد انتخاب الرئيس وظل على موقفه بالرغم من توافق الموالاة والمعارضة على قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً توافقياً.
خلال أحداث نهر البارد التي اندلعت فجأة في نيسان 2007، ووجد فيها قائد الجيش اللبناني نفسه أمام تنظيم مسلح ومدرب وممول مالياً، فيما كانت الموالاة ترى فيه حينها مجرد موظف ينفذ الأوامر.
خاض الجيش اللبناني تحت قيادة ميشال سليمان حرب نهر البارد وبعد ثلاثة أشهر عاد الجيش الى ثكناته منتصراً، ولم يبال بانتقادات الموالاة له بسبب حياده الايجابي في 23 كانون الثاني، وهو حياد دفع ثمنه الجيش من هيبته عددا كبيرا من الجرحى في 25 كانون الثاني 2007 وكوكبة من شهدائه في نهر البارد. وفي كل هذه الأحداث كانت المعارضة الى جانب الجيش اللبناني، وخصوصاً في تصديه للخروق الاسرائيلية للسيادة اللبنانية في المناطق الحدودية..
أمنياً، وفي كل مرة كانت تتنبأ فيها قوى الموالاة بالاغتيالات، كانت العبوات الناسفة تنفجر في مرافق اقتصادية وسياحية كما حدث في عالية والاشرافية، أو تغتال سياسياً مثل النائبين وليد عيدو وانطوان غانم، وعسكرياً مثل مدير عمليات الجيش العميد الركن فرنسوا الحاج.
كانت المعارضة تتساءل عن سر العلاقة بين توقعات جعجع وجنبلاط بالاغتيالات وحصولها بعد وقت قصير، ومع كل انفجار كانت تسأل المعارضة عن نتائج التحقيقات في اعمال التفجير، وعن الدوافع الكامنة وراء حجب المعلومات عن المشتبهين، وتنتقد التوظيف السياسي لها.
خلال سنة كاملة نجحت المعارضة في استمرارية اعتصامها، ووفرت الحماية السياسية الكاملة لاتمام ولاية الرئيس اميل لحود حتى الدقيقة الأخيرة، ونزعت فتيل القوة من البند الأممي السابع لاقرار المحكمة الدولية، ووقفت الى جانب الناس في شؤون حياتهم المعيشية، وظلت مع الجيش في الجنوب والشمال، وأيدت المبادرة العربية، ووقفت مع مبادرة الرئيس بري، وتعاونت مع المبادرة الفرنسية، وجنحت للحوار، ونبذت الفتنة، وقدمت الشهداء وعضت على الجرح ورفضت ان تنجر الى الحرب ولو دفعت ألف مظلوم قتيل.
في المقابل، وقفت في وجه الوصاية الأميركية بقوة، وتسببت في فشل السياسة الأميركية في لبنان خصوصاً، ورفضت تقديم تنازلات للقوى المرتبطة بالمشروع الأميركي في المنطقة، وأمام صمود المعارضة في وجه الوصاية اضطرت واشنطن الى التراجع سياسياً لمصلحة المبادرة الفرنسية.
تصر المعارضة على منطق الحوار الداخلي بعيداً عن الاملاءات الخارجية، وتؤكد من خلال سلوكها اليومي انها تُغلب الخيارات الديمقراطية للحل، وترى في الاحتكام الى صوت الشعب المخرج المنصف لجميع القوى السياسية.
قاسم متيرك
الانتقاد/ العدد 1248 ـ 4 كانون الثاني/ يناير 2008