ارشيف من : 2005-2008
التدخل الفرنسي في لبنان خلال عام: باريس الساركوزية عدّلت ما شوهته الحقبة الشيراكية
بعد أقل من 24 ساعة على التظاهرات الحاشدة التي نظمتها المعارضة في كل لبنان في يوم 23 كانون الثاني الماضي رفضاً لحكومة فؤاد السنيورة، وتأكيداً لعدم شرعيتها الشعبية، كانت عدسات الصحافيين تظهر السنيورة متوسطاً الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ووزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس في مستهل مؤتمر "باريس ـ 3".
كان هذا المشهد واحداً من الدلائل والبراهين على أن العالم الغربي يسعى جاهداً لتقديم الدعم لحكومة يدرك قبل سواه انها باتت ساقطة شعبياً، وأن استمرارها بات يمثل عبئاً حقيقياً على مسيرة الاستقرار والسلم والازدهار، منذ أن نزل أكثر من مليون لبناني إلى الشارع مرتين وهم يهتفون بصوت واحد داعين إلى رحيل هذه الحكومة التي باتت فاقدة للشرعية.
وإذا كان رموز الإدارة الأميركية قد أطلقوا خلال السنة المنصرمة أكثر من 250 موقفاً داعماً لحكومة السنيورة ومندداً بالمعارضة وبمطلبها إقامة حكومة وحدة وطنية ومهدداً بعض رموزها بالويل والثبور وحجز الأموال وسوى ذلك من مظاهر القمع والضغط، حتى خال العالم أنه ليس من شغل شاغل لهذه الإدارة سوى حماية هذه الحكومة المتداعية وتأجيل سقوطها المحتم، فإن الأوروبيين قاموا أيضاً بالقسط الوافر في مجال التدخل بالشؤون اللبنانية من بوابة حماية حكومة السنيورة، وإن بدرجات مختلفة.
فإذا كانت ايطاليا وإسبانيا وألمانيا تعبر عن اهتمامها بالملف اللبناني عبر زيارات متفرقة قام بها مسؤولون فيها لبيروت وإطلاق دعوات إلى الوفاق وتسوية الأوضاع إضافة إلى مواقف تنطوي على انتقادات مبطنة للمعارضة، إلى جانب لازمة تأييد حكومة السنيورة، فإن باريس كانت نجم اهتمام "القارة العجوز" كما سماها يوماً الرئيس الأميركي جورج بوش، بالملف اللبناني.
ولا بد لأي قارئ موضوعي لمسار التدخل الفرنسي في الأزمة اللبنانية إلا أن يميز بين مرحلتين مختلفتين إلى حد ما من التدخل الفرنسي: الأولى هي مرحلة رئاسة جاك شيراك التي انتهت في نهاية شهر أيار/ مايو المنصرم والثانية مرحلة خلفه الرئيس نيكولاي ساركوزي.
في المرحلة الأولى كان ثمة انحياز فرنسي فاضح لمصلحة الموالاة في لبنان، ورعاية تامة لزعيم تيار "المستقبل" النائب سعد الدين الحريري.
وخلال هذه المرحلة كان ثمة استتباع أميركي كامل للموقف الفرنسي، إذ لم يسجل أي تطور أو مؤشر على أن السياسة الخارجية الفرنسية في لبنان تفارق بهذه النسبة أو تلك التوجه الأميركي حيال الملف اللبناني، ولا ريب أن موقف شيراك التابع تبعية كاملة لبوش، ساهم إلى حد بعيد في ابقاء الجرح اللبناني نازفاً، وفي هروب الموالاة إلى الأمام عبر اطالة أمد الأزمة ورفضها التجاوب مع مبادرات الحل التي كانت تطرح من هنا أو هناك.
وقد حاول شيراك أن يغري خليفته في قصر الاليزية ساركوزي بأن يواصل السير على النهج نفسه، فقبل مغادرته القصر بأيام قليلة للمرة الأخيرة، وتحديدا في العاشر من أيار الماضي، تعمد مخالفة البروتوكول الفرنسي وجمع بين ساركوزي وسعد الحريري، علّ الأخير يحظى بالمكانة نفسها والامتيازات ذاتها التي كانت له سابقاً.
لكن ساركوزي الآتي إلى الرئاسة في فرنسا على صهوة أحلام وآمال تطمح إلى تجديد الدور الفرنسي في العالم على نحو مميز، كانت له مع الملف اللبناني صولات وجولات مختلفة. فهو أراد أن يثبت تميزه من خلال الساحة اللبنانية، وتحديدا من خلال دور يتسم بالفرادة والتميز عن أدوار عهد شيراك. وهكذا عادت باريس إلى بيروت بوجه تعرفه الأخيرة معرفة جيدة وعريقة، هو وجه وزير الخارجية برنار كوشنير، وقبله الموفد جان كلود كوسران.
عاد كوشنير الذي تعرفه أوساط بيروت معرفة جيدة عندما كان وزيراً للشؤون الإنسانية في أواخر عقد الثمانينيات، بنهج فرنسي مميز يتجسد بخطاب هادئ النبرة، وبإدارة مستجدة تمثل الانفتاح على كل قوى المعارضة.
فاتحة الانجازات الفرنسية في لبنان كان مؤتمر سان كلو الذي انعقد في 14 تموز وجمع ممثلين (من الصف الثاني) عن القوى المتمثلة بطاولة الحوار الوطني، مضافاً إليهم ممثلين عن المجتمع المدني.
المؤتمر لم يحقق ما هو معقود عليه من آمال، لكنه أعطى باريس دفعاً وزخماً لاستكمال ما بدأته من أداء مميز في مجال الوساطة في الملف اللبناني.
فبعد فترة عادت باريس لتقارب عمق الملف اللبناني من منظار آخر، خصوصاً مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي، فهذه المرة طرقت باريس أبواب دمشق بعد قطيعة طويلة باحثة عندها عن عون ومدد يساعدها في تحقيق انجاز ما على الساحة اللبنانية، خصوصاً أن باريس حصلت ما صار يُعرف في القاموس السياسي اللبناني بتفويض أميركي للعب دور ما ضمن مهلة محددة في السياسة اللبنانية.
وقبل أيام قليلة من انتهاء موعد الاستحقاق الرئاسي ليل 23 تشرين الثاني، اضطر كوشنير إلى المكوث في بيروت ما يقارب أسبوعاً، ودافعه الأساسي أن تتفق المعارضة والموالاة على رئيس توافقي يُنتقى من اللائحة التي وضعها البطريرك الماروني تحت الضغط الفرنسي وتحت إلحاح بري والحريري.
في تلك الفترة، فترة الأيام العشرة التي سبقت انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود، صارت بيروت قبلة الأنظار ومحط رحال الكثير من المسؤولين الأوروبيين والعرب. فإلى جانب كوشنير الذي برع في سياسة الدبلوماسية المكوكية وصل وزير الخارجية الإيطالية ماسيمو داليما ونظيره الاسباني ميغل انخيل موراتينوس، وبذا يكون عقد "الترويكا" الأوروبية قد اكتمل في بيروت.
وإلى جانبهم يحضر أيضاً الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الذي كان نفض يده من أي مبادرة عملية للوصول إلى تسوية تنهي النزاع في لبنان منذ أشهر عدة، وبقي مقيماً على موقف عام يطلقه من حين إلى آخر لإثبات أن الجامعة العربية بما تمثل من نظام رسمي عربي، ليست غائبة بالكامل عن الساحة اللبنانية وتشعبات أزمتها.
ولكن الجميع، أي وزراء الترويكا الأوروبية وموسى، يغادرون بيروت بعد انتهاء الموعد الأقصى للاستحقاق الرئاسي من دون أن يحققوا أي نجاحات تحول دون إطفاء الأنوار في قصر بعبدا، ودون سيادة "فخامة الفراغ" الرئاسي.
أخفق كل هذا الحضور الأوروبي والعربي في انتاج تسوية لبنانية تفضي إلى رئيس توافقي ينهي الأزمة المستعصية منذ أكثر من عام، لكنهم وفق ما قيل لاحقاً نحجوا إلى حد بعيد في تنظيم الفراغ الرئاسي وفي جعله فراغاً هادئاً.. لم تصر المعارضة على تشكيل الحكومة الثانية التي كانت أدرجتها سابقاً كواحد من الخيارات المتفق عليها مع الرئيس لحود، فيما تخلت الموالاة عن التهديد بانتهاج خيار نصاب النصف زائد واحد الذي طالما لوّحت به وبشرت بشرعيته، وذلك للإتيان برئيس يكون من نسيجها أو على الأقل من رحمها السياسي.
وبذلك يكون الأوروبيون عموماً قد أمنوا على مصير القوة الدولية العاملة في الجنوب التي يشكلون عمادها الأساسي، وهم كانوا يتخوفون من أن تكون الفوضى الدستورية سبباً أساسياً في ضياع المرجعية الرسمية لهذه القوة، ويكون الفرنسيون قد تلقوا ضربة سياسية موجعة لأنهم خالوا في بعض الأوقات أن بإمكانهم صنع تاريخ جديد في سياستهم الخارجية عبر نظم وضع الساحة اللبناني، التي لهم فيها حضور تاريخي مشهود.
ولاحقاً تتلقى فرنسا صفعة أخرى تمثلت في زيارتي مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ولش إلى بيروت، وأيضاً بكلام الرئيس الأميركي جورج بوش عن دعمه انتخاب فريقه التابع في لبنان، أي الأكثرية، رئيسا بنصاب الأكثرية التي يملكونها.
وكان واضحاً أن الأميركيين أنهوا بشكل قاطع مدة التفويض الذي أعطوه للفرنسي لحل الأزمة اللبنانية.
وترد باريس بيأس عبر كلام أطلقه ساركوزي مؤخراً، ومفاده أولاً أن باريس قامت بما يمكن أن تقوم به في لبنان، ما اعتبر نوعاً من القنوط واليأس من فعل أي شيء، وفحواه ثانياً التهديد بوقف الاتصالات مع دمشق إذا لم تقدم ما يؤكد استعدادها للضغط على حلفائها في لبنان لإمرار الاستحقاق الرئاسي. وبرغم ذلك فإن اليوم التالي حمل أنباءً تفيد بأن أمين سر الرئاسة الفرنسية غيان أجرى اتصالين هاتفيين بوزير الخارجية السورية وليد المعلم للتداول بالشأن اللبناني.
باريس الساركوزية حاولت العام الماضي في لبنان ولم تحقق رغبتها، ولكنها بالتأكيد حسنت من صورتها.
إبراهيم صالح.
الانتقاد/ العدد 1248 ـ 4 كانون الثاني/ يناير 2008