ارشيف من : 2005-2008
حدث في مقالة: لبنان 2008.. أي آفاق؟
كتب مصطفى الحاج علي
كيف يمكن رسم السمات الرئيسية للعام 2007 في محاولة لاستشراف معالم وآفاق العام 2008 القادم؟
ليس السؤال بداعي التنبؤ، لكن كما يقال فإن أواخر الأمور تعرف من بداياتها، ولا شيء يولد فجأة وبدون إرهاصات أو مقدمات سابقة تحمل في داخلها بذور النتائج القادمة.
من هنا فالسؤال هو وقفة للتأمل بقدر ما هو محاولة لرسم مسار الأمور واحتمالات وجهاتها.
وللإجابة عن السؤال موضع البحث نمهد بمقدمات رئيسية نراها ضرورية وهي:
أولاً: كانت القضية الفلسطينية تحديداً وقضية الصراع العربي الإسرائيلي عموماً، القضيتين المركزيتين اللتين شغلتا المنطقة طيلة القرن الماضي وما زالتا، وكل القضايا الطارئة أو المستجدة على أهميتها وخطورتها كقضية الاحتلال الأميركي للعراق اليوم، ليست بمعزولة لا بالمعنى الجيو سياسي ولا بالمعنى الاستراتيجي للصراع، فالاحتلال الأميركي للعراق هو في أحد استهدافاته المركزية يتصل بقضية الصراع العربي الإسرائيلي في المنطقة.. بل حتى مسألة الملف النووي الإيراني والدور الإيراني في المنطقة ينظر إليهما من هذا المنظار، فمسألة أمن الكيان الإسرائيلي وحماية وجود هذا الكيان هي دائماً في صلب أي مشروع أو تصور استراتيجي أميركي تحديداً للمنطقة.
ثانياً: إن الاندفاعة الأميركية التي تشهدها المنطقة منذ حدث أيلول عام 2001، التي ترجمت حتى الآن بحربين واحتلالين: الأول لأفغانستان والثاني للعراق، إنما أريد من خلالها اطلاق دينامية شاملة على امتداد ما يعرف جيو سياسياً بمنطقة الشرق الأوسط، لإعادة رسم خريطته من جديد وفق تصورات تحقق المصالح الاستراتيجية الكبيرة للولايات المتحدة، ومدخلا لتثبيت هيمنتها العالمية قطبا وحيدا. لكن ما يهم هنا فهم الدور المركزي الذي كان يراد إناطته بالكيان الإسرائيلي، حيث كان المطلوب جعله بمثابة القلب لهذه المنطقة، فيرتبط به كل شيء، وينطلق كما يعود إليه كل شيء. والأهم أنه يصبح هو المتحكم بمفاصل الحياة الأمنية والاقتصادية والسياسية لهذه المنطقة.
ثالثاً: ثمة مقاربات ثلاث لقضية الصراع مع الكيان الإسرائيلي:
أ ـ المقاربة التسووية أو الاتجاه التسووي الخالص في المنطقة، وهو الاتجاه الذي ترسخ بعد اتفاقيات كامب دايفيد وإنجاز ما يعرف بالصلح بين النظام المصري والكيان الإسرائيلي. وينهض منطق هذا الاتجاه على مقولة رئيسية مفادها ان الكيان الإسرائيلي كيان لا يُقهر، وهو مدعوم من أكبر وأقوى دول العالم. وهذا ما أفادتنا به الخبرة التاريخية في الصراع مع هذا الكيان، والتي تمثلت في جملة من الحروب التي لم يتمكن العرب من الخروج منها بانتصار واحد. إذن مقتضى الواقعية والتجربة السياسية تقول بوجوب خوض المسلك الدبلوماسي التفاوضي سبيلا وحيدا ممكنا لاسترجاع ما يمكن استرجاعه من الحقوق.
ب ـ الاتجاه الذي يرى في التسوية خياراً استراتيجياً لكن ليس من خلال التخلي عن عوامل القوة التي تأتي في طليعتها عامل المقاومة، فالمقاومة يجب الاحتفاظ بها في سياق خيار التسوية وكضامن لاسترجاع أكبر قدر ممكن من الحقوق.
ج ـ الاتجاه المقاوم في المنطقة الذي يرى أنه لا سبيل لاسترجاع الحقوق إلا بالمقاومة، وأنه لا امكان لمنح الكيان الإسرائيلي شرعية وجود، لأن ذلك يعني اقرار الغاصب على غصبه، والاعتراف بمنطق القوة في العلاقات بين الدول لا بمنطق سيادة الحق.. إضافة إلى أن التناقض بيننا وبين الكيان الإسرائيلي ليس تناقض حدود، وإنما تناقض وجود.
هذه الإنجاحات والخيارات الثلاث تتعايش في منطقتنا عموماً وفي لبنان أيضاً.
ومن الواضح أن لا مشكلة لواشنطن وللكيان الإسرائيلي مع أصحاب الخيار الأول، بل على العكس يمكن القول ان هذا هو المطلوب أميركياً وإسرائيلياً لإدراكهما أن لا معنى للتفاوض بين القوي والضعيف، ما يجعل الخيار الأول هو خيار استسلام بكل ما في الكلمة من معنى.
وأما المشكلة مع الخيار الثاني هي مشكلة بين بين.. وأما المشكلة بل المعضلة الفعلية فهي مع الخيار الثالث، أي خيار المقاومة.
رابعاً: كان المتوقع أن يأتي العقد الأخير من القرن الفائت وتحديداً ما بين 1990 و2000 بنجاح كبير لمنطق التسوية وخيارها في المنطقة، والذي حدث هو النقيض تماماً، حيث فشل منطق التسوية، بل ظهرت مساوئه الاستراتيجية في الوقت الذي كان منطق المقاومة يحفر عميقاً في لبنان وفلسطين، وتحديداً في لبنان حيث شكل انتصار عام 2000 ضربة قوية لمنطق التسوية ودعماً قوياً بالمقابل لمنطق المقاومة، الأمر الذي أطلق جرس انذار مدوٍّ وصلت أصداؤه سريعاً إلى البيت الأبيض وإلى مجمل حلفائه في المنطقة.
منذ تلك اللحظة بدأ اعداد العدة للانقضاض على منطق المقاومة والممانعة في لبنان والمنطقة.
خامساً: جاءت الحروب الأميركية على المنطقة في هذا السياق العام، أي سياق استهداف قوى المقاومة والممانعة في المنطقة بمعزل عن مواقعها وأدوارها. فاحتلال أفغانستان والعراق وإطلاق شارون حربه باتجاه الضفة وغزة وصولاً إلى اخراج سوريا من لبنان وصدور القرار 1559، كلها كانت تندرج في سياق محاولات واشنطن الإطباق استراتيجياً على قوى المقاومة والممانعة، بما يمهد الطريق إلى حسم المواجهة لمصلحة خيار التسوية. ولذا كان واضحاً في هذه المرحلة طبيعة الشعارات الحدية التي رفعتها إدارة بوش: محور الخير والشر، من ليس معنا فهو ضدنا، ما يعني ضمناً تدشين مرحلة إلغاء الخيارات الوسطية لمصلحة الخيارات الحدية، وبالتالي تدشين مرحلة الصراع المباشر في مواجهة أريد لها أن تكون حافلة بالانتصارات.
لكن الذي حدث هو عكس ذلك تماماً:
فشل الاحتلال الأميركي لأفغانستان، وها هي حركة طالباً والقوى المناوئة للاحتلال الأميركي تضع يدها على أكثر من 60% من الأراضي الأفغانية.
فشل الاحتلال الأميركي في العراق ودخوله في مأزق استراتيجي كبير، وحتى التقدم الذي يعلن عنه اليوم لا يعود بشكل رئيسي لقوى الاحتلال بقدر ما يعود لخصومها، ما يعني أن هؤلاء الخصوم هم من بات اليوم يتحكم بمصير الاحتلال.
فشل الجهود الأميركية في التصدي للمشروع النووي الإيراني، حيث جاء تقرير الاستخبارات الأميركية الأخير ليوجه ضربة قاسية لكل جهود إدارة بوش لتعبئة الأميركيين ودول العالم خلف حملة ضاغطة ربما تصل إلى حدود استخدام القوة العسكرية ضد ايران.
في المقابل وفي الاطار ذاته، فشل الكيان الإسرائيلي في تصفية المقاومة الفلسطينية، بل على العكس نجحت هذه المقاومة في الوصول إلى سدة الحكم.
ذروة الهزائم الأميركية الإسرائيلية التسووية كانت في تموز عام 2006. فهذه الحرب لو أنها نجحت لأعادت التوازن إلى المشروع الأميركي في المنطقة، ولعكست عقارب ساعة قوى المقاومة في المنطقة عموماً، وفي لبنان تحديداً.
باختصار شديد، يمكن القول ان العام الفائت هو عام الانكسار الأميركي، وهو عام المواجهات المباشرة بين محوري المقاومة والاستسلام، الأمر الذي دفع حتى القوى الوسطية إلى أن تأخذ مسافات أوسع، إما باتجاه خيار المقاومة وإما بالاتجاه الآخر، لتغدو المنطقة مقسومة فعلياً اليوم بين هذين المحورين.
سادساً: لم يكن لبنان بعيداً عن هذه التوجهات خصوصاً منذ مطلع التسعينيات ودخوله ما يعرف بمرحلة الطائف والإدارة السورية له. هذه الإدارة التي لعبت دور ضابط التوازن وصمام الأمان والحاجز لعدم صدام خياري التسوية والمقاومة.
من هنا كان التوجيه الأميركي لإخراج سوريا من لبنان وإلغاء الغطاء الدولي لدورها فيه، ومن ثم صدور القرار 1559، بمثابة اعلان عن مرحلة الصدام المباشر بين خياري المقاومة والتسوية.
وعندما فشلت الضغوط السياسية والاعلامية الداخلية والخارجية في اسقاط خيار المقاومة جاء عدوان تموز ليشكل العملية الجراحية الاستئصالية للمقاومة من جهة، وللعب بالتوازنات الطائفية من جهة أخرى، كل ذلك لمصلحة انتاج نظام سياسي وأمني جديد توكل مهامه لإحدى الطوائف الأساسية بالمعنى السياسي للكلمة.
ولا شك في أن أولويات النظام السياسي الأمني الجديد يراد لها أن تنسجم مع متطلبات المشروع الأميركي في المنطقة، أي إلحاق لبنان اقتصادياً بهذا المشروع، ومن ثم ترتيبات وظيفته الأمنية بحسب أولويات جديدة: الارهاب أو الحركات السلفية والمقاومة.
ولنتصور لحظة واحدة أن الكيان الإسرائيلي نجح في عدوان تموز، ما الذي كان سيحصل؟ لا شك في أن بنك الأهداف الموضوع يشمل إلحاق لبنان بمشروع التسوية وبقطار التسوية في المنطقة، ما يعني حكماً معالجة الوضع الفلسطيني فيه، وهي معالجة يجمع الجميع على أن لها اسماً حركياً وحيداً هو التطبيع. لكن الذي حصل أن المقاومة انتصرت، ما وضع سداً منيعاً في مواجهة المشروع والمخطط الأميركي للبنان، وارتداد الهزيمة الأميركية الإسرائيلية على حلفائها في لبنان، ما أعاد ترسيخ توازنات القوة لغير مصلحة أدوات المشروع الأميركي فيه.
في هذا الاطار الاستراتيجي العام يتموضع الاستحقاق الرئاسي، ما يجعل مفهوماً تماماً أن هذا الاستحقاق ليس مجرد استحقاق دستوري، وإنما استحقاق سياسي مفصلي بامتياز، الأمر الذي يجعل من مقاربته مقاربة دستورية ومحاولة للالتفاف على أبعاده السياسية الجوهرية التي تصر المقاومة على أخذها بالحسبان.
بكلمة أخيرة، ان أي اصرار على التفكيك بين البعد الدستوري والبعد السياسي للاستحقاق الرئاسي لن يفضي إلى أي نتيجة، وبالتالي التسوية الداخلية لا تكتمل أبعادها خارج الأبعاد السياسية الأساسية لها.
من هنا فإن احتمالات أن يطول الفراغ واردة، واحتمالات عودة الاشتباك السياسي بكل أبعادها الديمقراطية ستحضر بقوة في الفترة المقبلة، خصوصاً إذا ما تمادت حكومة السنيورة اللاشرعية في اغتيالها للدستور ولموقع رئاسة الجمهورية ولغالبية الشعب اللبناني.
الانتقاد/ العدد 1248 ـ 4 كانون الثاني/ يناير 2008