ارشيف من : 2005-2008

العام 2007 : خطوات إلى الأمام ... ولكن!

العام 2007 : خطوات إلى الأمام ... ولكن!

شهد العام 2007 استمرار العالم العربي والإسلامي، وخصوصاً شطره الممتد من باكستان إلى فلسطين، مروراً بإيران والعراق وسوريا ولبنان، في احتلال مركز دائرة الحدث الدولي. وهو يشكل بذلك استمراراً طبيعياً لما كان عليه الشأن في الأعوام السابقة التي شكلت، منذ الهجمات على نيويورك وواشنطن وإعلان الحرب على ما يسمى بالإرهاب، ما يمكن اعتباره سمة أساسية من سمات هذه الحقبة التاريخية المتميزة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسيادة الانطباع بأن العالم قد أصبح عالماً مفتوحاً أمام رياح الهيمنة الأميركية،  بدخول المشروع الإمبراطوري الأميركي في طور الأزمة. وإذا كانت ملامح هذه الأزمة قد بدأت بالارتسام مع الفشل الذي أحاق بالتدخل العسكري في العراق وأفغانستان، ومع إخفاق التهديدات والإجراءات العقابية في منع إيران من المضي قدماً في تطوير قدراتها على جميع الأصعدة، ومع العجز عن فك الارتباط السوري الإيراني وعن النيل من عزيمة حزب الله وحماس، فإن معالم أخرى من معالم مأزومية المشروع الأميركي ترتسم أيضاً في باكستان وتركيا والقرن الإفريقي. إذا كانت الفوضى الخلاقة قد ألقت بجرانها في بعض أنحاء العالم الإسلامي، فإنه من غير المؤكد أن رياحها ستسير وفق الوجهة المشتهاة من قبل مهندسيها الأميركيين بقدر ما يمكنها أن تنفلق عن مفاجآت كتلك التي واجهت العدوان الأميركي على أفغانستان والعراق، والإسرائيلي على لبنان، أو كتلك التي نقلت تركيا من موقع التابع بلا قيد أو شرط إلى موقع الطرف الذي يدخل يومياً في تناقضات حادة مع المشروع الأميركي والغربي على وجه العموم.

وفي هذا الإطار، تفاقمت هذه التناقضات مع الإثارات الأميركية والأوروبية المتعلقة بالمشكلة الأرمنية، ومع الصدامات بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، في حين أسهم الجدل المحتدم في أوروبا حول الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي، وما يستعيده ذلك الجدل من ذكريات تاريخية عادت إلى تجديدها مشكلات البلقان الحالية، أسهم في إنعاش ذاكرة تركيا وفتحها على هويتها ودفعها في اتجاه العمل، من خلال الشروع بوضع اللبنات الأولى لتجمع البلدان الناطقة بالتركية أو المتأثرة بالثقافة التركية وذلك على رقعة تمتد من البوسنة في أواسط أوروبا إلى حدود الصين. مع الإشارة الى أن إرهاصات هذه الصحوة تحمل مضامين مختلفة عن مضامين التجربة التاريخية السابقة بالنظر إلى كون عدد من بلدان العالم التركي الرئيسية قد اتخذت، مع روسيا، في مؤتمر البلدان المحاذية لبحر قزوين، مواقف أثارت قلق واشنطن خصوصاً لجهة التضامن مع إيران في مواجهتها الراهنة مع التهديدات الأميركية. وفي إطار متصل، ليس من الصدفة أن يتزامن الجدل حول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وما أسفر عنه هذا الجدل من مواقف، كموقف الرئيس الفرنسي المشبع بنعرات تأخذ معناها على ضوء سياقات القرن السابع عشر وما قبله، مع ظهور بوادر التفسخ على الاتحاد الذي استبدل بمشروع دستوره التوحيدي معاهدة مخففة ومفتوحة على المزيد من التخفيف. وفي إطار متصل أيضاً، أعادت زيارة ملك إسبانيا لسبتة ومليلة، على الضفة الأخرى للبحر المتوسط، وما رافقها من توترات بين المغرب وإسبانيا، ومن ورائها بلدان الاتحاد الأوروبي، أعادت إلى الأذهان، عند الطرفين كامل التاريخ الممتد بين فتح الأندلس وسقوط غرناطة وصولاً إلى الاحتلال الإسباني/ البرتغالي/ الفرنسي لبلدان المغرب العربي. وكان من الطبيعي في سياق هذه المعمعة أن يحيط التوتر بأجواء زيارة ساركوزي إلى الجزائر وما رافقها من استعادات لذكريات الاحتلال الفرنسي وثورة المليوني شهيد. وفي سياقها أيضاً، وبرغم إطلاق ليبيا لسراح الممرضات البلغاريات، وبرغم توقيع عدد من الصفقات التجارية الدسمة بين فرنسا وليبيا، فإن زيارة القذافي إلى باريس قد تمت على إيقاع الكثير من العزف الفرنسي على أوتار الحاضر والماضي المترعين بالتوتر بين ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية. توتر مشابه للتوتر مع تركيا بخصوص الانضمام لم تنجح في تهميشه جهود التعاون المتوسطي الأوروبي المغاربي. والحديث عن المغرب يفضي تلقائياً إلى الحديث عن إفريقيا التي شكلت بدورها مسرحاً للنشاط الاستعماري طيلة قرون، والتي لم تفلح في إخراجها من أوضاعها المأساوية عقود حافلة بالمؤتمرات الأوروبية والدولية الهادفة، شكلاً، إلى مساعدة إفريقيا، ومضموناً، إلى تأبيد وضعها كقارة منتهبة، وهو الأمر الذي شهد عليه فشل القمة الأوروبية الإفريقية التي انعقدت في ليشبونة الشهر الماضي بسبب استمرار أوروبا في التعامل مع إفريقيا وفقاً لعاداتها الاستعمارية القديمة، الأمر الذي أكدته فضيحة "سفينة زوح" في تشاد وما كشفته من أنشطة الاسترقاق الجديد الذي تضطلع به جمعيات إنسانية ومنظمات حكومية وغير حكومية فرنسية. والأكيد أن أشكال التعامل الأوروبي السلبي مع إفريقيا، وخصوصاً فيما يتعلق بالسودان في دارفور أو بزيمبابوي في قضية المستوطنين البيض، هي في أساس التقدم اليومي الذي يحققه الصينيون في القارة السمراء، على حساب الأوروبيين والأميركيين. وإذا كان من الصحيح أن إفريقيا منهكة بدمارها الاقتصادي وفقرها وحروبها الداخلية وأمراضها وغير ذلك من آفات جرها عليها الاستعمار الأوروبي وموروثاته "الاستقلالية"، فإنه من الصحيح أيضاً أن إفريقيا ترد الصاع لأوروبا، بشكل أو بآخر، على شكل أزمات داخلية ليس أقلها ما يسمى بمشكلات الضواحي في المدن الفرنسية أو بمشكلات الهجرة السرية ومعسكرات المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين في إسبانيا وإيطاليا. وكل ذلك يتصل بالطبع بالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة في أوروبا، وبوجه خاص في فرنسا، جراء السياسات الليبرالية وارتفاع سعر صرف اليورو والمنافسة الآسيوية. هذه السياسات، التي تضاف إلى الانجرار الأوروبي وراء سياسات بوش في العراق وأفغانستان، تفسر تراجع الشعبية والنهاية الدراماتيكية لأمثال جاك شيراك في فرنسا وطوني بلير في بريطانيا وجون هوارد في أوستراليا، وهي النهاية التي أحاقت أيضاً بالعديد من صقور إدارة الرئيس بوش من المسيحيين المتصهينين.
ولقد بات من المتحقق أن مظاهر الفشل التي أحاطت بالمشروع الأميركي في المنطقة هي على صلة بانتعاش العديد من القوى المناهضة سابقاً للهيمنة الإمبريالية. ففي أميركا اللاتينية، انضمت بلدان جديدة إلى معسكر اليسار ويسار الوسط، وتعززت التوجهات في فنزويلا وبوليفيا وغواتيمالا وغيرها نحو خيارات اقتصادية واجتماعية ذات مضامين مضادة لاقتصاد السوق والخصخصة وغيرهما من مفردات الرأسمالية المتوحشة، وهو الأمر الذي أعاق المحاولات الأميركية الرامية إلى توحيد شطري القارة تحت اتفاقية آلينا للتجارة الحرة. وبالتوازي مع ذلك، برزت توجهات سياسية تمثلت، بعد قطع العلاقات الديبلوماسية بين فنزويلا و"إسرائيل" خلال عدوان يوليو/ تموز 2006 على لبنان، بتعزيز العلاقات بين فنزويلا وإيران، وبتزايد عزلة الأنظمة القليلة المرتبطة بواشنطن إلى درجة لم يعد الرئيس بوش قادراً فيها على زيارة بلد غير كولومبيا التي وصفها الرئيس هيغو شافيز بأنها "إسرائيل أميركا اللاتينية". وكما في حالة الصدام المغربي الإسباني، برز صدام آخر في القمة الإيبيرية ـ الأميركية اللاتينية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، على خلفية الاعتبارات الاستعمارية التقليدية بين فنزويلا وإسبانيا، المستعمر التقليدي لأوروبا اللاتينية قبل حقبة الهيمنة الأميركية.

وفي أوروبا، عادت الأمور لتأخذ، بعد حقبة الانبطاح الروسي أمام الغرب، في ظل بوريس يلتسين، شكلاً يذكر بما كانت عليه العلاقات خلال فترة الحرب الباردة في ظل السلطة السوفياتية. فقد تفجرت الخلافات، في مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ (شباط/ فبراير الماضي)، على خلفية الدرع الصاروخية الأميركية في بولندا وتشيكيا، ولكن أيضاً على خلفية اقتراب الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي من حدود روسيا، وأفضت إلى إلغاء العمل، من قبل روسيا باتفاقية الحد من انتشار الأسلحة التقليدية في أوروبا، الأمر الذي تزامن مع إعادة نشر الأساطيل الروسية في البحار الدولية، في أعقاب تهديدات روسية بتصويب الصواريخ العابرة للقارات نحو العواصم الغربية. وكان الهمود الذي أصاب الثورتين البرتقالية في أوكرانيا، والوردية في جورجيا، وتعثر التقدم الغربي في كوسوفو نتيجة مباشرة لسياسة التصدي التي اعتمدتها روسيا بوتين، وهي السياسة التي تجلت أيضاً في التقارب السياسي والعسكري بين روسيا والصين وإنتاجهما المشترك على إيران، ما يعطي الحرب الباردة المقبلة، فيما لو وقعت فعلاً، زخماً لم تتوافر عليه الحرب الباردة الماضية لأسباب كانت متعلقة بالخلافات الحادة بين النظامين الشيوعيين في كل من الاتحاد السوفياتي وصين ماو تسي تونغ. والأكيد أن تحول النفط والغاز الروسيين إلى سلاح في المواجهة، ومساعي بوتين من أجل تكوين منظمة للبلدان المنتجة للغاز، على غرار أوبك، وهي المساعي التي تحظى بالحماسة أو القبول من بلدان غنية بهذه المادة كإيران وفنزويلا وقطر، من شأنه أن يفتح الطريق، في ظل أزمة الطاقة، أمام أوضاع لن تكون في مصلحة الغرب.

والكلام عن الطاقة يتصل مباشرة بالكلام عن أزمة البيئة أو الكارثة المناخية. فقد كان العام 2007 حافلاً، أكثر من الأعوام السابقة، بالكوارث المناخية التي ضربت أعاصيرها بنغلاديش ومعظم بلدان آسيا الشرقية ومنطقة الكاريبي، وحرائقها اليونان وجنوب أوروبا، من دون أن ينجو من ويلاتها الأخرى أي بلد من بلدان العالم، تلك الويلات المتمثلة بالخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية الفادحة. ولقد بات من المعلوم أن آلاف الدراسات العلمية المكلفة قد أثبتت أن الانحباس الحراري هو المسؤول عن التسبب بهذه الكوارث، وأن الانحباس الحراري ناشئ بدوره عما يسمى، على سبيل التلطيف والتمويه بالنشاط البشري أي، بالفم الملآن، عن الفلتان البشري في مجالات الصناعة والنقل والاستهلاك المحموم الطاغي على جميع مرافق العيش وفق نمط العيش الأميركي المعولم، من الطائرة والسيارة ووسائل التكييف والترويح إلى المطبخ وتجهيزاته والاستعمالات اليومية على اختلافها بكل ما تحتضنه من أدوات وسلع ترمى بعد الاستعمال لتتحول إلى جبال من النفايات في ضواحي المدن، أو إلى أبخرة تسمم السماء، أو إلى مواد قاتلة تفتك بمياه الشرب وبالتربة وبالأجناس الحية في البر والبحر. وعلى هزالها وقلة فعاليتها في تدارك الكارثة، لم تحظ بروتوكولات كيوتو بموافقة الأميركيين. كما منيت محاولات وضع بروتوكولات لمرحلة ما بعد كيوتو، في المؤتمر الحاشد الذي عقد مؤخراً في بالي الإندونيسية تحت إشراف الأمم المتحدة، بفشل مماثل، مع أن هذه المحاولات شبيهة كسابقاتها من حيث قلة الجدوى.

إن المماطلات المحيطة بالحلول المتداولة للكارثة البيئية تبعث على إثارة تساؤلات كبرى: هل وصلت "المؤامرة" إلى حد الاستثمار في الكارثة؟ ذلك الاستثمار بارز سياسياً وحضارياً في الدعاوى الغربية المعولمة حول الآثار التدميرية للصناعة الصينية أو لزراعة الأرز أو لاستخدام الخشب في مواقد أفغانستان وإفريقيا أو لعادة التدخين. وهو بارز أيضاًً في الدعاية للتكنولوجيا النظيفة التي يعدها الغرب ليستنزف بها العالم بعدما استنزفه طيلة قرون بالتكنولوجيا الوسخة. هل وصلت المؤامرة إلى حد الرهان على مفاقمة الكارثة البيئية كشكل من أشكال حرب الإبادة بالنظر إلى كون البلدان الفقيرة أقل قدرة على مواجهتها والتكيف معها من البلدان الغنية؟ أياً تكن الإجابة، فإن الكارثة البيئية هي، بالدرجة الأولى، تعبير صارخ عما أفضت إليه الحرب الظالمة التي يشنها الإنسان على الطبيعة بأسلحة الحضارة، وانطلاقاً من اعتبارات فكرية واضحة تحتضنها الفلسفات الغربية السائدة والقائمة على فكرة السيطرة والتحكم بكل شيء في الطبيعة. إن الحل الحقيقي لهذه المشكلة التي تفوق أخطارها أخطار جميع المشكلات السياسية في عالم اليوم موجود خارج المؤتمرات والقمم الاستعراضية الدارجة والشبيهة ببكاء القاتل على القتيل. إنه موجود، ما دام أن جهة عليا لم تطرح بعد رؤيتها لحضارة نظيفة حقاً، برغم أن هذه الرؤية واضحة في الأديان السماوية، وبشكل تشريعي مقونن في الإسلام، بوجه خاص، في سلوك بديل مرتكز إلى أخلاق بديلة على مستوى الأخلاق والفكر عند الأفراد. أخلاق وفكر يستندان إلى فكرة التصالح والتحالف والمودة مع الطبيعة بترابها ومائها وهوائها ونارها، بدلاً من "سلعنتها" وإهلاكها بنزعة الاستهلاك الجنوني المستفحل على النطاق العالمي. 
عقيل الشيخ حسين   
الانتقاد/ العدد 1248 ـ 4 كانون الثاني/ يناير 2008

2008-01-04