ارشيف من : 2005-2008
المشهد العربي الرسمي عام 2007: تفويت الفرص التاريخية
إذا كانت الأعوام السابقة أقفلت على استمرار النظام السياسي العربي عموماً ـ مع بعض الاستثناءات ـ في الاستقالة من الأدوار الاساسية في مجاله الاقليمي الحيوي، واهمها تقرير مصيره وإخراجه من اطار التبعية لمنظومات دولية، فإن عام 2007 أقفل على تكريس هذه التبعية ايضاً، لكن الأخطر كان تفويت الفرص التاريخية المتاحة أمام هذه الدول في اداء ادوار تتجاوز المنطقة العربية ليس الى الشرق الأوسط الجديد الذي تجهد الولايات المتحدة لتشكيله وفق خريطة سياسية جديدة تؤدي في حصيلتها النهائية الى الاستغناء عن بعض من هؤلاء الذين لا ينتبهون انهم بإعراضهم عن استغلال الفرص التي توفرها لهم شعوبهم، والاخرى الخارجية، يعرضون عروشهم لخطر الإزالة من قبل الاميركيين انفسهم، فضلا عن تعريض مواطنيهم لخطر التشرذم والانقسام الطائفي والمذهبي والعرقي، وهي الخطوط الفاصلة بين دويلات الجغرافيا السياسية الجديدة حسب التخطيط الاميركي.
واحدة من أبرز هذه الفرص كانت الانتصار التاريخي الذي حققته المقاومة الاسلامية في لبنان على الولايات المتحدة في حرب تموز/ يوليو عام 2006 باعتبارها القائد الفعلي لهذه الحرب وليس "اسرائيل". فبدل ان تكون الهزيمة الاميركية الإسرائيلية نقطة تحول تاريخي في مسار سياسات هذه الدول، عبر الضرب على نقاط الوجع والضعف التي كشفتها المقاومة في منظومة الهيمنة الاميركية الإسرائيلية، كان مؤتمر "أنابوليس" مناسبة جاء اليها مهرولا جزء من العرب ممن لا يشكل حضورهم سوى جائزة كبيرة لـ"ايهودا اولمرت" المكلوم والمهدد بالاطاحة، والتكرم عليه بصورة ولو شكلية قدمها كدليل على انه مقبول من النظام الرسمي العربي اكثر مما هو مقبول من شعبه، وبالتالي افاض في الحديث عن وظائف المؤتمر ليس في التطبيع العربي الإسرائيلي فحسب، بل في تحويل عدو هؤلاء العرب ليصبح ايران وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين بدلا من "اسرائيل".
هذه الفرصة التي اتيحت لـ"اولمرت" لالتقاط صور مع عرب شكلت سقطة تاريخية لهؤلاء الذين كان بإمكانهم ان يكملوا ما حصل بعزل مجرم الحرب هذا المسؤول عن آلاف الشهداء والجرحى من اللبنانيين والفلسطينيين منذ توليه رئاسة وزراء العدو.
فلسطين
في المقابل كان الاداء العربي الرسمي اسوأ من السيئ تجاه ما يجري في فلسطين المحتلة: سواء لجهة المجازر اليومية التي يرتكبها العدو ضد المواطنين وفصائل المقاومة، او لجهة الحصار الاقتصادي الذي يتعرض له قطاع غزة بعد سيطرة حركة حماس عليه، حيث ادى الى ازدياد نسبة الفقر في غزة بنسبة 9.7 في المئة استنادا الى ارقام جهاز الاحصاء الفلسطيني. وترافق ذلك مع انقسام فلسطيني تجلى في فشل اول حكومة وحدة وطنية شكلتها حركتا حماس وفتح بعد توقيعهما اتفاق مكة في شباط/ فبراير الماضي، ليخسر الشعب الفلسطيني أول حكومة وحدة وطنية واول تجربة ديموقراطية برلمانية حقيقية، في ظل تقاعس النظام السياسي العربي عن مدها بأسباب الدعم والاستمرار ربما لمخاطرها على طبيعة هذا النظام الوراثية وغير الديمقراطية ان لم نقل الديكتاتورية.
العراق
المشهد نفسه ينسحب على الملف العراقي. فبرغم استمرار غرق الاميركي في هذا المستنقع، عبر تسجيل العام 2007 الرقم الاعلى في الخسائر البشرية لقوات الاحتلال الاميركي جراء عمليات المقاومة العراقية، والتي بلغت مقتل نحو 896 عسكريا وفقا لحصيلة لوكالة الصحافة الفرنسية استنادا لارقام وزارة الحرب الاميركية "البنتاغون"، لتكون السنة الاكثر دموية لهذه القوات منذ اجتياحها للعراق في 2003، وليرتفع عدد العسكريين الاميركيين والعاملين لدى البنتاغون الى 3901 منذ اذار/ مارس 2003، فإن الاستفادة العربية الرسمية من هذا الغرق بقيت صفراً، ان لم نقل ان البعض يعمل على تفعيل النزاعات المذهبية والعرقية داخل هذا البلد موفراً بيئة يتذرع بها الاميركي لتبرير بقائه وتنظيمه، فضلا عن تصدير البعض التكفيريين ممن يشكلون خطرا على أمنه الداخلي ليعملوا في العراقيين قتلاً وترهيباً وفتنة داخلية لا يستفيد منها سوى الاميركي.
في المقابل بدا هناك استجابة من بعض الاطراف العربية للتماهي مع الموقف الاميركي بشأن البرنامج النووي الايراني برغم سياسة اليد المفتوحة التي تطلقها طهران باتجاه محيطها العربي والاسلامي، باعتبار ان قوة الجمهورية الاسلامية هي جزء من قوة هذه المنطقة، وان تفعيل هذه القوة ضمن اطر تعاون على ضفتي الخليج يشكل فرصة نادرة لادارة مصالح هذه الدول وفق مقاربة وطنية واسلامية صرفة وليس وفق متطلبات المصالح الاميركية، وهو ما عبرت عنه طهران عبر المشاركة التاريخية للرئيس محمود احمدي نجاد في قمة دول مجلس التعاون الخليجي مقدما رزمة اقتراحات لبناء قوة كبيرة.
وهنا برز عنصران لافتان يساهمان في تفعيل مصادر قوة المنطقة:
الاول، النفط الذي بقي محافظا على تألقه سواء الاقتصادي او المالي، او السياسي عبر تزايد متطلبات استخدامه كسلاح في مواجهة اولئك الذين لا يتوانون عن التعبير عن نواياهم العدوانية تجاه العالم العربي والاسلامي. فالنفط كان نجم العام المنصرم بسعر لامس المئة دولار وسجله في اليوم الثاني من العام الجديد كاستمرارية لما حصل، ضاخا كميات كبيرة من الاموال (على سبيل المثال حصلت الجزائر على 59 مليار دولار من عائدات المحروقات في العام 2007، منها ملياران اثنان نجما عن رسم استثنائي على ارباح الشركات الاجنبية)، التي من شأن استخدامها في مكانها الصحيح ان تنقل عالمنا من ترتيبه الثالث الى ترتيب اول. لكن اللافت ان ارتفاع اسعار النفط لم يواكب بالاستجابة لمقترحات باستبدال عملة تسعير الذهب الاسود من الدولار الى اليورو او عملات اخرى بسبب انخفاض قيمة العملة الاميركية ما يقلل كثيرا من حجم العوائد النفطية.
هذه الاقتراحات التي لم تبصر النور فوتت فرصة اخرى على الاستفادة الكاملة من ارتفاع الاسعار. وأرفق هذا الرفض برفض آخر لمقترح فنزولي خلال قمة اوبك بأن يتم تحويل هذا الاطار الى اطار سياسي يستفيد من عناصر قوته في مواجهة الهيمنة الاميركية التي لا تميز بين ما هو اقتصادي او مالي او سياسي.
لكن الانكى من ذلك ان الولايات المتحدة تعمل على امتصاص هذه الكتلة المالية الضخمة الاسلامية والعربية عبر سياسة تقليدية تقوم على تخويف دول المنطقة بعضها من بعض، وهو ما يقف في جزء منه حاليا من خلال التهويل بمخاطر البرنامج النووي الايراني لتدفع دولا عدة الى ابرام عقود بعشرات او مئات مليارات الدولارات لشراء اسلحة تؤكد الخارطة العسكرية عدم الحاجة اليها.
اما العنصر الثاني، فهو إعراض بعض الدول العربية عن الاستفادة من متغيرات النظام العالمي وتراجع حجم التأثير الاميركي واستعادة بعض الاطراف حجمهم وتأثيرهم، كما هو الحال مع روسيا بوتين التي أظهرت العام المنصرم مزيداً من التمايز عن الموقف الاميركي في العديد من الملفات والقضايا الدولية والاقليمية ولا سيما منها الشرق أوسطية، ما وفر فرصة أخرى لرفد عناصر قوة النظام السياسي العربي، مع العلم أن واحدا من الأسباب الرئيسة لاستعادة الدور الرئيس كان بفضل عائداتها النفطية وصناعاتها العسكرية. كما أنها بدأت استخدام سلاح الطاقة حيال بلدان مجاورة مثل أوكرانيا التي تتقرب أكثر مما يبدو لها مناسبا من الحلف الأطلسي والولايات المتحدة منذ الثورة البرتقالية، وهو ما ترفض بعض الدول ممارسته.
لكن الخلافات البينية العربية التي تجعل من القمم الدورية او الاستثنائية لجامعة دولهم مجرد مناسبة لتظهير هذه الخلافات بدل انهائها، ولمزيد من الانفاق المالي والنفاق السياسي، في حين ان بلدا مثل السودان لا يزال وحيدا يخوض غمار مواجهة غير متكافئة مع المجتمع الدولي بشأن اقليم دارفور، الذي يشهد حرباً، فيما الصومال تنهشه حرب أهلية ايضاً اسقطت اكثر من ثلاثمئة الف قتيل منذ العام 1991، وتشكل مقديشو مسرحا لاعمال عنف دامية توقع ضحايا في صفوف المدنيين منذ هزيمة المحاكم الاسلامية في مطلع العام 2007 اثر تدخل الجيش الاثيوبي تحت عنوان مساعدة الحكومة الصومالية الانتقالية.
المغرب العربي
اما في المغرب العربي فإن الحدث الامني بقي عنواناً طارئاً على خلفية تسجيل سلسلة تفجيرات وهجمات، آخرها في الجزائر التي شهدت هجمات انتحارية عدة تبناها تنظيم "القاعدة في المغرب العربي الاسلامي".
الذي ظهر ايضا في تونس والمغرب وموريتانيا وفي بلدان الساحل مع الجماعة الاسلامية المقاتلة في ليبيا.
هذا المشهد السياسي العربي المتأجج والمربك برغم كل عناصر القوة على موعد مع افتتاحية مثيرة للعام الجديد تتمثل بزيارة قال الرئيس الاميركي جورج بوش انه سيقوم بها الى المنطقة هذا الشهر قبل ان يختم ولايته هذا العام، ما يشكل نذير شؤم لا يأتي الا من السياسة الاميركية التي تقوم في جزء من قوتها على إعراض البعض ولا سيما في عالمنا العربي والاسلامي عن استخدام عناصر قوتهم الكثيرة والتقاط الفرص.
عبد الحسين شبيب
الانتقاد/ العدد 1248 ـ 4 كانون الثاني/ يناير 2008