ارشيف من : 2005-2008

التنبؤ بالأحداث قبل وقوعها: رجم بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله

التنبؤ بالأحداث قبل وقوعها: رجم بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله

مع حلول الأيام الأخيرة من كل عام ميلادي، تكثر التنبؤات والتوقعات بما سيحصل في العام المقبل من أحداث متنوعة، حيث يحتل المتنبئون مساحات واسعة في وسائل الإعلام المتنوعة، مكتوبة ومسموعة ومرئية، والأخيرة تستقطب النسبة الأكبر من المتابعة لأسباب متعددة، في طليعتها توافر مشاهدة هذه المقابلات عبر شاشات التلفزة التي تتنافس في استضافة "نجوم التنبؤ" من الرجال والنساء على حد سواء.
في المقابل يبدي عدد محدود من وسائل الإعلام الثلاث أيضاً، المكتوبة والمسموعة والمرئية، وجهات نظر مختلفة، تفند ادعاءات "نجوم التنبؤ" بمعرفة ما سيحصل في المقبل من الأيام، على قاعدة أن ما سيحصل يندرج تحت عنوان الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، الذي لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول.
عند هذا المفترق الثقافي ـ الديني، الذي يتعارض كلياً مع ثقافة الإيمان والاعتقاد بصدق التنبؤ بالمغيبات من الأحداث المستقبلية، يبرز الخلاف المستحكم الذي يأخذ منحى المواجهة الفكرية، التي تكون نتيجتها راجحة لمصلحة الطرف الأول الذي يرتكز في نفيه لإمكانية التنبؤ بأحداث المستقبل الى البعد الديني القطعي الذي ينفي هذه الإمكانية بوضوح، من خلال القرآن الكريم (والسنة الشريفة)، ينفيها حتى عن الأنبياء والرسل، إلا ما شاء الله تعالى أن يطلع عليه أحداً من أنبيائه ورسله، حيث يندرج هذا الأمر ضمن منظومة المعجزات الإلهية التي كانت تتحقق لبعض الأنبياء لإلقاء الحجة على منكري دعواتهم وجاحديها.

علم الغيب في القرآن الكريم
زخر القرآن الكريم بعدد كبير من الآيات المباركة التي تتحدث عن حصر علم الغيب بالله تعالى، ونفيه عن المخلوقين جميعاً، فقال تعالى في أكثر من سورة: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله"، "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً"، وهذان الشاهدان هما من طريق الخطاب الإلهي المباشر الذي ينفي معرفة علم الغيب عن المخلوقين، أما ما جاء في القرآن الكريم في سياق نفي العلم بالغيب عن البشر، فهو أتى على لسان بعض الأنبياء(ع) ومنهم النبي محمد(ص) الذي قال في معرض رده على الذين طلبوا منه إخبارهم عن الساعة: "قل إنما علمها عند الله لا يجليها لوقتها إلا هو(...) ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير"، والنبي نوح(ع): "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب"، والنبي عيسى(ع): "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب".
ويتضح من هذا العرض القرآني أن علم الغيب مختص بالله تعالى الذي حصر هذا الأمر بنفسه، وإذا شاء أعطى غيره بعضاً من هذا العلم من خلاله مباشرة، لتكون النتيجة واحدة، وهي أن علم الغيب مختص به تعالى وحده.

الجن وعلم الغيب
وفي سياق الرد على الادعاء بأن الجن يعلمون الغيب، تشير الآية الكريمة الواردة في سورة سبأ بوضوح الى أن الجن لا يعلمون الغيب، فهم كانوا مسخرين لخدمة نبي الله سليمان(ع) "يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكراً وقليل من عبادي الشكور، فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خرَّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين"، فالغيب الذي تحقق أحد مصاديقه بحضورهم، وبين أيديهم، وهو وفاة نبي الله سليمان(ع)، لم يُدركوه بالرغم من قدراتهم الخارقة التي كانوا مسخرين لخدمة هذا النبي من خلالها، وكان هذا التسخير عذاباً عليهم لبثوا فيه ظناً منهم أن النبي سليمان(ع) ـ وهو مستند الى منسأته (عكازه) ـ حي يراقب حركاتهم، فكيف بعلم الغيب الذي سيكون تحقق مصاديقه في المقبل من الزمان، فهو عصيٌّ عليهم أكثر من الغيب الذي تحقق وجوده وخفي عنهم.

تفنيد التنبؤ
إن الطابع الذي يغلب على توقعات "المتنبئين" و"المنجمين"، على حد سواء، هو العموم، سواء في الزمان أو المكان، أو الكيفية، وحتى في تحديد الأشخاص، وما إن يحصل أي حدث يميل في أحد وجوهه الى الأمر المتنبأ به حتى يصبح هذا الحدث هو المصداق الأبرز للدلالة على صدق المتنبئ والمتنبأ به معاً، والمستهجن في أمر المتنبئين هو عدم تحقق الكثير من تنبؤاتهم، ومع ذلك فإنهم يفاخرون بأن بعض ما تنبأوا به قد تحقق بنسبة مئوية جيدة، أما ثالثة الأثافي في ادعاءات المتنبئين فتكمن في إرجائهم بعض ما تنبأوا به ولم يتحقق الى الأعوام المقبلة!!.
 إن ادعاء معرفة ما سيحصل من أمور في مقبل الأيام هو رجم بالغيب، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، الذي لا يُطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول، وصدق من قال: كذب المنجمون (والمتنبئون) ولو صدقوا.
عدنان حمّود
الانتقاد/ العدد 1248 ـ 4 كانون الثاني/ يناير 2008

2008-01-04