ارشيف من : 2005-2008
قصيدة الرِّثاء: عمود المجالس العاشورائية
ولم يشهد التاريخ قصيدة رثاء قيلت في إنسان مرت على موته السنون أو العقود أو القرون، مثل الذي قيل ـ ويقال وسيقال ـ في الإمام الشهيد سبط النبي محمد(ص)، الحسين بن علي(ع)، الذي قال في رثائه شعراء العرب ماضياً وحاضراً، قصائد رائعة، أغنت الشعر العربي بهذا النوع من القصائد، وقد برز عدد من الشعراء المتأخرين (عن زماننا) الذين عاصروا أئمة الهدى(ع) وقالوا قصائد بليغة في رثاء الإمام الحسين (ع)، ومنهم الشاعر الكميت الأسدي الذي نظم عشرات القصائد في مدح ورثاء أهل البيت(ع)، وخاصة في رثاء الإمام الحسين(ع)، وسميت قصائده تلك بـ"الهاشميات"، والشاعر دعبل الخزاعي الذي قال الكثير من القصائد البليغة في مدح ورثاء أهل البيت(ع)، ومنها القصيدة التائية المشهورة، التي أبكت الإمام الرضا(ع) وأضاف اليها عدداً من الأبيات الشعرية، بينها بيتان يتضمنان نعيه لنفسه وموضع دفنه، وكذلك قصيدته الرائعة في رثاء الإمام الحسين(ع) التي مطلعها:
أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً
وقد مات عطشاناً بشط فرات
إذاً للطمت الخد فاطم عنده
وأجريت دمع العين بالعبرات.
أما من شعراء العصر الحديث فقد برزت أسماء عدد من الشعراء الذين نظموا قصائد رائعة في رثاء الإمام الشهيد، ومنهم الشاعر محمد مهدي الجواهري، الذي قال قصيدته العينية الرائعة، المعنونة بـ: "آمنتُ بالحُسين"، ومطلعها:
فداءٌ لمثواكَ من مَضْجَعِ
تنوَّرَ بالأبلجِ الأروعِ
وألقى الجواهري قصيدته هذه أول مرة في حفل أُقيم في كربلاء المقدسة عام سبعة وأربعين، في ذكرى استشهاد الإمام الحسين، وقد كُتب خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيسي الذي يؤدي الى "الرواق الحسيني" في كربلاء المقدسة.
الحث على شعر الرثاء
دأب عدد من أئمة الهدى الأطهار(ع) على الطلب الى الشعراء الذين كانوا يزورونهم، أن يقولوا على مسامعهم قصائد يرثون فيها الإمام الحسين(ع) ليستمعوا اليها ويبكوا جدهم الشهيد المظلوم، ومن هؤلاء الأئمة السجاد(ع) والباقر والصادق والرضا(ع) الذين كان يزورهم عدد من الشعراء، فيطلبون منهم أن يقولوا قصائد في رثاء الإمام الحسين(ع)، ومن هؤلاء الشعراء دعبل الخزاعي والكميت الأسدي اللذين أجادا في إلقاء القصائد التي ترثي أهل البيت(ع) وخاصة الإمام الشهيد الحسين بن علي(ع).
قصيدة الرثاء: "مجلس عزاء"
كانت القصيدة الشعرية التي تلقى في رثاء الإمام الحسين(ع) وأهل بيته الأطهار هي بذاتها "مجلس العزاء" الذي يُتلى على مسامع أئمة الهدى أبناء وأحفاد الإمام الشهيد، الذين كانوا يُصغون الى مضمون كل قصيدة، ويثنون على قائلها ويمدحونه إذا أجاد في قصيدته وعبر عن الوقائع التي جرت بأبيات مؤثرة، كما حصل مع دعبل الخزاعي أثناء إلقائه قصيدته التائية "منازل آيات"، على مسمع الإمام الرضا(ع) فلما قال:
أرى فيأهم في غيرهم مقسَّماً
وأيديهم من فيئهم صفرات
بكى الإمام الرضا(ع) وقال له: صدقت يا خزاعي. ولما قال:
إذا وُتروا مدُّوا إلى أهل وترهم
أكفَّاً عن الأوتار منقبضات
بكى الإمام الرضا(ع) حتى أغمي عليه، ولما أفاق أعاد دعبل القصيدة عليه حتى وصل الى هذا البيت، فراح الإمام الرضا(ع)يقلِّب كفيه ويقول:
أجل والله منقبضات.
ويظهر من هذا السياق أن قصيدة الرثاء التي كانت تتضمن تعبيراً صادقاً عن مجريات الأمور والمآلات التي وصل اليها أهل بيت النبوة(ع) من ظلم واضطهاد وهضم للحقوق وقتل وتشريد، كانت تثير أحزان وأشجان أئمة الهدى(ع)، فيتأثرون بها الى حد البكاء الشديد، وبذلك كانت قصيدة الرثاء تشكل "مجلس العزاء" الذي يتلى على مسامع أئمة الهدى(ع) من حين الى آخر لتفيض من خلاله أحزانهم العميقة التي تختزن في صدورهم، ويعبروا عن ألمهم الدفين لما جرى عليهم وعلى أجدادهم، وخاصة مصيبتهم الكبرى في جدهم سبط النبي(ص) الإمام الحسين الشهيد(ع) الذي بكاه كل واحد منهم، وكانوا يحيون يوم شهادته أباً عن جد، وخصه شعراؤهم بقصائد رائعة ما زالت أصداؤها تتردد في مسامع محبيه الى أيامنا هذه.
قصيدة الرثاء اليوم
تحتل قصيدة الرثاء اليوم المساحة الأولى من "مجلس العزاء الحسيني"، حيث تبدأ تلاوة المجلس بها، كاملة، أو بالاقتصار على عدد من أبياتها، ويستعيد قارئو العزاء قصائد الرثاء الحسينية التي قيلت ماضياً وحاضراً على لسان كبار الشعراء لما لها من تأثير كبير في تحريك المشاعر وتجييشها من خلال مضمون القصيدة الذي يصف ما جرى يوم الطف على الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه، بصوت شجي يتناسب مع إلقاء قصيدة الرثاء، التي كانت في الماضي تشكل بذاتها "مجلس العزاء"، وصارت في أيامنا هذه عمود المجالس العاشورائية.
عدنان حمّود
الانتقاد/ العدد1249 ـ 11 كانون الثاني/ يناير 2008