ارشيف من : 2005-2008
قرأ نهج البلاغة وحفظه، وبحث عن الحسين وكَتَبَه: جورج شكور، من" كنيسة شيخان "ولدت" ملحمة للحسين
على الضميــــر دم كالنار موار ان يذبــــح الحق فالذباح كفار
دم "الحسين" سخي في شهادته ما ضاع هدراً به للهدى انوار
نجول بين هذه الكلمات، تستوقفنا قوة التعبير والعمق في المعنى، كلمات نُحِتت في المضمون، وكُتِبت من نفسٍ عشقت الإمام عليا (ع) وعاشت معه منذ الطفولة، أطالت رحلتها مع نهج البلاغة وفيه بحثت عن إمام هو الإمام "الحسين".
كلمات كمّلت الواحدة منها الأخرى، والتقت بمواقفها في ثمانين بيتاً شعرياً في ملحمة بعنوان "ملحمة الحسين"، لنكون امام شاعر مسيحي يعيش فكراً وقلباً ومعنى على الاستقامة في الإيمان من عذابات يسوع وبلاغة الإمام علي (ع) وهو سيدها واميرها، ليكتب سيرة الإمام الحسين (ع) تضحيات في سبيل الإسلام ورفع رايته، بكلمات وتعابير لم تأت من باب التصنع والتكلّف، لكنها أتت من عمق الاحترام، ووفاء الدين والمذهب، هكذا هو الشاعر المسيحي "جورج شكور" صاحب الملاحم الشعرية وكاتب ملحمة "الحسين".
رسالة القيم المشتركة
جورج شكور هو ابن بلدة "شيخان" "بلدة المئتي كتاب" في مدينة جبيل، ولد فيها وتربى في بيت قديم الى جانب كنيسة قديمة تعلم فيها تعاليم المسيحية وجمعها بالقيم والتعاليم الاسلامية تحت سنديانة معمّرة قرأ في ظلالها نهج البلاغة، حتى أصبحت البلاغة نهجاً في حياته، وقرأ في ظلالها القرآن الكريم، وأحب الأدب وكتبه شعراً بعدما رضعه من والدته التي أحبت الشعر وكتبته دون أن تتعلم حرفاً.
تعلّم جورج شكور الأدب حتى أصبح استاذاً، حمل رسالة التعليم منذ الصغر، منذ كان يأتي بألواح خشبية يجعل منها مقاعد للتلاميذ، ويقيم مدرسة صيفية مجانية، ولا يزال يفعل ذلك حتى اليوم، تحت سنديانة بلدته "شيخان" مبيّناً انه احب اللغة العربية منذ صغره حبا جماً.
رحلة شكور مع الإمام الحسين (ع) وليدة تاريخ إنساني كبير، فشكور المسيحي عشق بداخله الإمام عليا (ع) وبحث عمن أحبه الإمام علي(ع) في حياته وفي كتاباته حتى تعرف الى الإمام الحسين، قائلاً: "تعرفت الى الإمام الحسين من خلال الإمام علي(ع) عندما كنت في الصفوف التكميلية، وكنت أرافق نهج البلاغة "فأصبحت القيم التي يمثلها، قيم الصدق والصراحة والتضحية، تسير أمامي وانا أسير خلفها، ووجدت فيها مثلي الاعلى الذي أطمح اليه، فعشقت هذا الرجل كما عشقت أدبه وأنا المسيحي الأرثوذكسي، وطالعت الإمام الحسين وسيرته الحسينية من خلال الكثير من الكتب، تعرفت الى بطولات هذا الرجل العظيم وقرأت شجاعته وتفاعلت معه، بحثت عن تشيعه، وادركت معنى ان يكون الإنسان شيعياً حتى كتبته بطلاً عظيماً بعدما عايشته من خلال شخصيتي التي فطرت على البطولة، ونما فيها عطر البطولة، ومن تلك الثقافة الأصيلة ولدت ملحمة الحسين في ثمانين بيتاً، وأصبح الحسين في أنفاسي وفي وجداني وفي آمالي وتطلعاتي وحياتي".
كتب جورج شكور ملحمة الحسين من بلاغة روحه التي علّمها نهج البلاغة، ومن شفافية نفسه وطهارة عقله وكبر قلبه، إذ ليس وليد تصنّع ان "ينكبّ شاعر مسيحي كبير على نحت سيرة إنسان عظيم بقالب شعري وملحمي، بل هو من باب المشاركة الوجودية للتأكيد أن تلاقي المسلمين والمسيحيين في قيم كثيرة تظهر من خلال شخصيات لها تاريخ في التضحية، بين المسيح وبين الإمام الحسين (ع)، وان الشهادة في سبيل الحق قبس ضياء ينزله الله على اصفيائه الطيبين".
تأثر بشخصية الإمام الحسين (ع) أفضل الشعراء وكتاب العالم ومن مختلف الديانات والطوائف والاسماء، لكن تأثّر الشاعر جورج شكور "وهو شاعر الجمالية" تأثر جريء، فالحسين في كلمات شكّور بطل يمثل روعة الشهادة، وهذا الرجل كما يضيف جورج شكور "هذا الرجل ومن أبيه ومن سلالتهما" تفرّعت الشهادة، وهذا الرجل هو رحمة للعالمين، كما هو جده خاتم الأنبياء والمرسلين محمد (ص) الذي جاء رحمة للعالمين فلا فرق بين مسلم ومسيحي أو أي ديانة اخرى، ووجدت الحسين بطلاً عظيماً، جسّد في شخصه قيم التضحية والرجولة والعزة والكرامة، وهو "اي الحسين" سيرة رجل في أمة وسيرة أمة في رجل".
تقف ملحمة "الحسين" عند الشاعر جورج شكور على اعتاب كثيرة من معاني الحق الذي جسده والده الامام علي (ع)، والحق والخير والجمال بالنسبة لشكور قيم تجمعنا، وتنقلنا من ترابية الأزمنة وجفاء النفوس وجفاف القلوب، وما السيرة الحسينية وملحمة "الحسين" سوى تمازج في البحث وسر الوفاء وعمق التمازج.
وفي شعر جورج شكور نتوقف عند كربلاء، كربلاء الشاهدة على معركة تاريخية، معنى آخر عند جورج شكور، فهي وثيقة حق شاهدة على الظلم، وهو من كتب عنها:
يا " كربلا" أأنت الكَربُ مُبتلياً
وأنت جُرحٌ على الايامِ نغَّارُ؟
لا، لا، وثيقةُ حقٍّ أنتِ شاهدةٌ
أَنْ في الخليقةِ أشرارٌ وأخيارُ
وجولةُ البُطلِ، إن طالت، لها أَجَلٌ
والحقُّ، جَولتهُ في الدَّهرِ أدهارُ
وأثناء اللقاء هذا بالشاعر جورج شكور، كان السؤال: كيف وجدت جورج شكور بعدما كتب "ملحمة الحسين"؟
فيقول: نظمت القصيدة فأصبحت أكثر اعتزازاً بنفسي، فجورج شكور ولد ولادة جديدة، لأن من قرأ الحسين يعود الى رحم الطفولة ومن يكتبه يخرج الى الدنيا من جديد.
يطيل الشاعر في الكلام، ويحاول جاهداً أن يؤكد بأن الحق هاجس كل المؤمنين من الاديان الموحدة لله، والتي تبيح الصراع من اجل السيادة الاحادية، ويتوق شكّور ان يعيد الى تلك "الشخصيات العظيمة" روحها بالحق عينه، والجمال ذاته والخير وحده، لان هذا التلاحم يؤكد وجود الله ووحدانيته في كل السياقات البشرية المرتبطة بالمسالك السياسية والادبية والشعرية والمسرحية والفنية.
قرأ ملحمة الحسين مئات الشعراء والادباء والناقدين، وكان أول من قرأها الشاعر اللبناني "سعيد عقل" مبدياً إعجابه الكبير بكل كلمة قرأها مؤكداً لشكور "لو بعد عشرين سنة من سيقرأ القصيدة سيقول عنك متشيعاً"، ليجيب شكور: إن كان الوقوف إلى جانب القيم والفضائل تشيّعاً فأنا أقبل أن يقولوا عني إني متشيّع".
نقرأ ملحمة الحسين، ونلتقي بهذا الشاعر الكبير، وينتهي اللقاء مستخلصاً أن شعر جورج شكور في ملحمة "الحسين" على رفعة من الخلق، ودفق قلب، من دون طلاق ما بين القلب والعقل واللسان.
أمل شبيب
الانتقاد/ العدد1249 ـ 11 كانون الثاني/ يناير 2008