ارشيف من : 2005-2008
الشهادة التي أحيت الأمة
بقلم: الشيخ محمد توفيق المقداد
مهما حاول الإنسان أن يتحدث عن واقعة كربلاء وما جرى فيها على أهل بيت النبوة من قتل وسبي وتعذيب، ومن صور مؤلمة وموجعة، لا يستطيع أن يفي تلك الواقعة حقها، لأن ما حصل فيها أكبر من الكلمات مهما كانت دلالاتها قوية ومعبرة، فكربلاء اختصرت المعركة المستمرة ما بين خط الإيمان وخط الكفر منذ أن خلق الله الحياة الإنسانية على هذه الأرض.
ولم تكن تلك الواقعة التي نهض بها الإمام الحسين (ع) مع مجموعة من أهل بيته وأصحابه القلة عبارة عن ثورة أشخاص أرادوا الموت فقط ولهذا ذهبوا إلى حيث موطن قتلهم وسفك دمائهم وقطع رؤوسهم، ثم بعد ذلك سبي عيالهم والانتقال بهم من بلد إلى بلد، بل هي ثورة أشخاص أدركوا أن الإسلام في خطر، وأن الشريعة المحمدية تحتاج إلى دم نقي وصافٍ ومخلص كي يفتديها لتعيش وتحيا وتنمو وتستمر ولترافق الأجيال القادمة لإرشادهم وهدايتهم والأخذ بأيديهم لسلوك سبيل النجاة في الدنيا والآخرة.
وأما سبب تلك الثورة التي لم يرض الإمام الحسين (ع) بديلاً عن القيام بها مع نصح الناصحين وإشفاق المشفقين فهو الانحراف عن صراط الله وعن دينه وعن سنة رسول الله(ص) الذي أرسى قواعد الدين الحنيف فأنقذ البشرية من الضلال والتيه إلى الهداية والإيمان، لأن الانحراف قد وصل إلى أعلى المراتب والى قمة الهرم في السلطة وفق الشريعة الإسلامية، حيث صار الحاكم "يزيد بن معاوية" وهو الفاسق المنحرف القاتل المرتكب لكل الموبقات والمحرمات، وحاكم كهذا لن يتعامل مع قضايا الأمة وفق حفظ مصالحها ودرء المفاسد عنها، بل سيعمل على تقوية ملكه وسلطانه وحكمه بالحديد والنار وبعوامل الترغيب والترهيب، على عادة الحكام الظالمين المستكبرين الذين لا يخافون الله، لا في دين الناس، ولا في دنياهم، بل هم على استعداد بسبب موت الضمير واضمحلال الوجدان وشهوة السلطة أن يفتكوا بكل شيء بالقريب عنهم والبعيد على حد سواء عندما يرون أن حكمهم في خطر، وأن استمرارهم في السيطرة على أمور البلاد والعباد مهدد من جهة ما أو من رمز انساني في ما يمكن لو توافرت له عناصر القوة أن يغير موازين الواقع لمصلحة المستضعفين والمعذبين.
لهذا كان لا بد للإمام الحسين (ع) أن يثور وأن يخرج دفاعاً عن الدين وعن الأمة، ولو أدى ذلك إلى سفك دمه وتقطيع أوصاله وفصل رأسه عن جسده وحمله على رأس الرمح، ولو أدى كذلك إلى تقديم الأولاد والاخوة والأرحام والأصحاب فداءً لذلك، فالدين وحياته واستمراريته هي أغلى من روح أي انسان مهما كانت مكانته عظيمة عند الله والأمة على حد سواء، بل لا نجافي الحقيقة اذا قلنا إن أي انسان آخر كان مكان الإمام الحسين (ع) ما كان له أن يؤثر بشهادته كما فعل، وأن يغير مسار الأمة بشهادته كما أثرت شهادة الإمام (ع)، وذلك بسبب المواصفات التي كان يتحلى بها الإمام الحسين (ع)، والتي جعلت من شهادته حدثاً عظيماً اهتزت له السماوات والأرضون، وأيقن المسلمون الغافلون بسبب تلك الشهادة مقدار الخطر العظيم الذي يتهدد دينهم وعقيدتهم، وخصوصاً أن القاتل هو سلسل الأسرة التي ما آمنت يوماً بالإسلام ونبوة محمد (ص) بل دخلت هذا الدين حقناً لدمائها وحفاظاً على أرواحها، وكانوا يتحينون الفرصة تلو الفرصة لإعادة الناس إلى حياة الجاهلية والجهل، ولو من خلال التلبس بلبوس الإسلام من باب النفاق والكذب والتدليس على المسلمين والمؤمنين.
ولقد ترك لنا الإمام الحسين (ع) إرثاً مهماً من كلماته النورانية والربانية التي تكشف عن أسباب ثورته وعن شهادته في سبيل الله عز وجل، وذلك لكي يعطي الدروس والعبر ويلقي الحجة تلو الحجة على كل الأجيال التي ستأتي من بعده، بأن دين الله عندما يكون في خطر، وأن الأمة الإسلامية عندما يتهددها الأعداء لا بد لهم من أن يتحملوا المسؤولية وأن يهبوا للدفاع والجهاد وتقديم الغالي والنفيس من الأرواح والأموال، لأن الدين يستحق كل تلك التضحيات وكل ذلك الإيثار، لأنه بدون الدين لا قيمة معنوية روحية وإنسانية للإنسان، وسيفقد معنى وجوده الذي خلقه الله من أجله، وسيكون مجرد جسد يتمتع بالنعم الدنيوية الفانية التي يشترك فيها مع غيره من أصحاب الحياة كما قال تعالى "إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلاً".
من هنا نحن بحاجة ماسة إلى إحياء ذكرى الإمام الحسين (ع) في كل عام، بل على امتداد أيام العام كذلك، لكي نعرف كيف نصل إلى الحق وكيف نتمسك به وكيف ندافع عنه وكيف نحتمي به عندما تواجهنا الشدائد والنكبات والبلاءات، وأن ندرك أن الدين هو الحصن الحصين الذي يحمينا ولو بالقتل والشهادة وبذل المهج والأرواح من الضياع والانحراف.
إن علينا ان نتعلم من الحسين (ع) ثقافة الحياة بالشهادة، وأن نطرد من قاموس حياتنا ثقافة الخوف للبقاء على قيد الحياة، لأن هذه الثقافة السلبية ولو أبقتنا أحياءً في بعض الأحيان، فإن الحياة ستكون مريرة مجبولة بالذل والهوان والصغار والاحتقار، بينما الحياة بالشهادة هي الفوز والنجاح في الآخرة، وهي الفوز والكرامة في الدنيا، وهي الملهمة والمؤثرة والدافعة إلى السير في نهج الحسين(ع) ونهج أهل بيته وأصحابه الذين رفضوا ترك الإمام (ع) وحيداً، وفضلوا الشهادة بين يديه على أن يعيشوا بعده تحت رحمة الظالمين من الحكام والمستبدين من الطواغيت فنالوا الشرف الأرفع في الدنيا والآخرة، وصاروا مع إمامهم المثال والقدوة والنموذج لكل المستقبل الذي جاء بعد كربلاء والى يوم القيامة.
ولا شك أن الإمام الحسين (ع) عندما نهض وانتفض بوجه الظلم والانحراف كان يستمد شرعية ذلك من كتاب الله وسنة نبيه(ص) وسيرة أبيه وأخيه من قبله اللذين استشهدا من أجل دين الله أيضاً.
ولا بأس بذكر نماذج من القرآن وسنة النبي (ص) وكلمات الامام الحسين (ع) التي كلها أنوار تضيء لنا الطريق وتوضح لنا المنهج الذي يجب أن نسير عليه عندما يتهدد ديننا الأعداء مهما كان نوعهم ومهما كانت صفاتهم.
فمن القرآن قوله تعالى "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون"، و"إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً"، ومن السنة النبوية قول النبي (ص) "ان فوق كل ذي بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل الله ، فاذا قتل في سبيل الله فلا بر فوقه"، و"خير الناس رجل حبس نفسه في سبيل الله يجاهد أعداءه، يلتمس الموت أو القتل في مساقه".
ومن كلمات الإمام الحسين (ع) عندما قام بثورته قال "ألا أني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وانما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، وقال "خُط الموت على ولد آدم كخط القلادة على جيد الفتاة.. كأني بأوصالي تقطعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، لا محيص عن يوم خط بالقلم"، وقال "موت في عز خير من حياة في ذل"، وقال أيضاً "إنا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومعدن العلم بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله".
فالشهيد الذي أحيا الأمة بشهادته ينبغي عليها أن تحفظ ذكراه ليس من خلال موسم عاشوراء في كل سنة، بل أن يحيا في قلوب أبناء الأمة التي جاهدوا وضحوا من أجلها، وأن يحيوا ذكراه بمواجهة أعداء الله كما فعل ولو أدى ذلك إلى القتل والشهادة، لأن هذا هو الهدف الذي يصبو اليه كل مؤمن ملتزم، وهو أن يخرج من الدنيا على أفضل صورة يحبها الله من عبده المؤمن وهي "صورة الشهيد المضرج بدمائه في سبيل الله".
الانتقاد/ العدد1249 ـ 11 كانون الثاني/ يناير 2008