ارشيف من : 2005-2008
بين "الدروس المستفادة" وبين "مجالس العزاء والبكاء": عاشوراء لا تحيا إلا بماء العيون
يشكل بعض الناس على الشيعة إحياءهم ذكرى استشهاد الإمام الحسين(ع) في كل عام والبكاء عليه. وفي أيامنا الحاضرة أيام الانفتاح على العصر والاستنارة بأنوار العصر المشعة على البشرية من شمسه الطالعة من جهة الغرب! في هذه الايام سرى هذا الإشكال إلى نفوس نفر من الشيعة، ومنهم المفكر المجتهد! والمثقف المبدع!، ومنهم من هو متعلم على سبيل النجاة. ومنهم من هو أدنى من ذلك. وهم يبثون شبهتهم تلك عبر شتى الوسائل الإعلامية والتبليغية بدءاً من الخطابة إلى المؤلفات مروراً بالندوات والمؤتمرات والمقالات وسواها. وخلاصة قولهم: حتى مَ نبكي؟! ولِمَ البكاء؟! ماذا نريد أن نجني من هذا البكاء؟ أليس من الأجدى أن نُعمِل الفكر في أحداثها لاستخلاص دروسها وعِبَِرِها؟ وهل يبقى من الأحداث التاريخية غير هذا، فما بالك بحادثة مضى عليها أكثر من الف عام من السنين كواقعة كربلاء؟
والحق أن بكاء الشيعة على الإمام الحسين (ع) ليس بدعة أحدثوها هوىً من عند أنفسهم، أو اجتهاداً خاطئاً أوقعهم فيه ضيق أفقهم المعرفي أو قصور أنظارهم عن الإمساك بحقائق الأمور. بل هم يقتدون ويتأسون برسول الله (ص)وأهل بيته(ع) الذين حزنوا على مصاب الحسين(ع) أشد الحزن وبكوه مرّ البكاء.
فقد أجمعت الروايات أن رسول الله(ص) بكى وحزن حزناً شديداً لمّا أخبر بأن ولده الحسين(ع) سيقتل بكربلاء وهو بعد لمّا يقتل. فما ظنك به (ص)إذا وجده مجدلاً على الرمضاء مكبوباً على الثرى معفر الخدين دامي الوريدين محزوز الرأس من القفا؟ أتراه سيتخذ يوم مقتله، يوم عاشوراء، يوم فرح وسرور؟!. أم أنه سيلقي خطاباً بليغاً حول "الدروس المستفادة" من استشهاده؟!
ومثله(ص) فعل أئمة أهل البيت(ع) من ولد الحسين(ع) فأقاموا لمصابه مجالس العزاء والنياح وندبوه وبكوه بكاءً شديداً. فإذا دخل شهر المحرّم كان لا يُرى أيٌ منهم ضاحكاً. وكانت الكآبة تغلب على أحدهم حتى يمضي منه عشرة أيّام. فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين. وكان أعظمهم حرقة ولوعة إمامنا زين العابدين(ع) الذي شهد بنفسه الفجيعة ورأى بعينيه فظاعاتها.
وفظاعة الفجيعة وصفها الإمام الرضا(ع) في حديث له مع الريان بن شبيب الذي دخل عليه في أول يوم من المحرّم، فقال (ع): "إن المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال فاستحلّت فيه دماؤنا وهتك فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله حرمة في أمرنا، إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء. يا بن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإنه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيهون.
وهذا صاحب الزمان والمدخر للأخذ بثأر الحسين(ع) يتفجع عليه قائلاً: "لأندبنّك صباح مساء ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً".
إذا كان أهل بيت النبوة(ع) على مثل هذه الحالة من العزاء والحزن الشديد على مصاب الحسين وأهل بيته(ع) إلى يوم الانقضاء؛ أفلا نستشعر الحزن لحزنهم فنقيم العزاء مشاركة لهم في مصابهم؟! ألا يكون منا ذلك وهم أئمتنا وقادتنا وهداتنا إلى الصلاح والفلاح. وإلا فما معنى أننا على ولايتهم. ذلك أن هذه علامة على تلك. بل هي من أدنى العلامات وأقربها. وإلى هذا يشير الإمام الرضا(ع) بقوله "يا بن شبيب إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا فلو أنّ رجلاً تولى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة".
من نافل القول ان الموالي حقاً يحزن لمصاب وليّه في مطلق المصائب. فكيف به إذا وقعت المصيبة على الولي نفسه؟ حينئذٍ سيكون المصاب مصابه هو. وسيكون شريكاً كاملاً لآل البيت في مصاب الحسين(ع) لا مواسياً لهم فقط. وسيكون العزاء عزاءه. وبالتالي فإن إقامته مجالس العزاء على شهيد كربلاء ستكون أمراً طبيعياً وبمقتضى حالة الحزن التي يعيشها. بل إن لم يفعل ذلك سيكون موضع استهجان واستنكار. وربما يتهم في إيمانه من رأس. ألم يقل الحسين(ع) نفسه: "أنا قتيل العبرة. ما ذكرني مؤمن إلا استعبر"؟
أما القول بعدم الحاجة إلى مجالس العزاء لإحياء ذكرى عاشوراء، وإن الإحياء الحقيقي يكون باستخلاص دروسها وعِبَرِها فقط؛ فهو قول مردود على أصحابه. ذلك أن حركة الإمام الحسين(ع) بأهدافها ونتائجها وشعاراتها فضلاً عن المبادئ والقيم التي تمثّلها (ع) هو وأهل بيته وصحبه سلوكاً ومواقف مقارنة مع تلك التي كشفت عنها وحشية وفظاظة الخصم. إن كل ذلك قد احتشد وتجمع في أحداث واقعة يوم العاشر من محرّم لسنة إحدى وستين للهجرة. وقد تمخّضت تلك الواقعة عن فاجعة كبرى لم يعرف لها التاريخ مثيلاً لا في العالم الإسلامي ولا في غيره. فإذا أردنا استعادة تلك الحركة في كل عام وفي كل حين بهدف تمثلها واتخاذ الإمام الحسين(ع) ومن معه قدوة لنا في حياتنا فلا مناص لنا من العودة إلى تلك الواقعة بكل مؤثراتها الوجدانية من دون الاكتفاء بالخطب والمحاضرات. وهذا يقتضي القيام باستعراض شريط الأحداث كما هي وتصوير المصائب التي انطوت عليها بأمانة تامة. بكلمة أوضح هذا يقتضي إقامة مجالس حزن وعزاء لشهداء عاشوراء. ولا يخفى أنه بقدر ما تنفذ الذكرى في طبقات الوجدان، تدوم وتبقى حية فاعلة في النفوس مهما تطاولت السنون. وهذه حقيقة لا يجادل فيها اثنان بمن فيهم أهل "الدروس المستفادة".
إسماعيل زلغوط
الانتقاد/ العدد1249 ـ 11 كانون الثاني/ يناير 2008