ارشيف من : 2005-2008
اغتيال بوتو... رافعة من روافع الفوضى البناءة!
مصرع بي نظير بوتو أثار، إلى جانب ما أثاره من ملابسات سياسية امتدت إلى خارج باكستان، موجة من الأفكار أوغلت في الفلسفة وعلم الكلام بشكل يشكل مصداقاً للعبارة الشهيرة القائلة بأن التاريخ يعيد نفسه مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة. فقد قال الرئيس مشرف، رداً على سؤال حول الجهة المسؤولة عن مقتل بوتو بقوله: "إنها الوحيدة المسؤولة، لأنها أخرجت رأسها من فتحة السيارة, لا أحد مسؤول غيرها. المسؤولية هي مسؤوليتها"... ولا شك بأن كثيراً من الجموع التي تُغذى غرائزها، منذ القِدم، على مثل هذا النوع من التبريرات، قد وجدت، في هذا الكلام، مخرجاً لا يريحها وحسب من وقفة المواجهة مع الضمير، بل يتيح لها أيضاً إمكانية الاستمتاع برؤية القاتل وهو يغمس يده، لمرة إضافية، في دم القتيل.
ولا يبدو مشرف آبهاً بكون تفسيره الجديد قد شكل نسخاً (إلغاءً ومحواً) لتفسيره السابق الذي قال فيه بأن القاعدة والمتطرفين الإسلاميين هم الجهة التي تقف وراء اغتيال بوتو. لا بل يمكن القول ان اعتزازه بامتلاك القدرة على هذا النسخ هو ما يفسر جرأة الناطق باسم وزارة الداخلية الباكستانية على القول، رداً على التساؤلات التي أثارتها تناقضات مشرف حول الموضوع، بأن "أياً كان ما يقوله الرئيس فهو صحيح"، ما يجعل الحقيقة جرماً يدور حول الرئيس وفي فلك الرئيس...
و"الحقيقة" تذكر مباشرة باغتيال الرئيس الحريري وما ارتبط به ذلك من إسراع الأمم المتحدة إلى تشكيل المحكمة الدولية. فالحال أن أنصار بوتو وأسرتها قد طلبوا تشكيل محكمة على غرار تلك المحكمة. لكن وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير، ذا اليد الطائلة حتى في باكستان، وقف مشرِّعاً عندما استثنى فكرة اللجوء إلى تحقيق أممي لأن ذلك يتطلب توافر شروط "كثيرة"، منها تورط جهة أجنبية في ما حدث (ما يستلزم معرفة كوشنير الاستباقية بأن الفاعل جهة داخلية، وعدم علمه بتشابكات الداخلي والخارجي في زمن يقول فيه مراقبون جديون بأن دفع باكستان نحو المزيد من الاضطراب قد يشكل مخرجاً لبوش من ورطاته المتتابعة منذ أيلول/ سبتمبر 2001). ومن جهته، رأى البيت الأبيض أن لا ضرورة لتدخل الأمم المتحدة، لأن خمسة خبراء من اسكوتلانديارد قد وصلوا لمساعدة الحكومة الباكستانية في التحقيق... أي في التحقيق الذي سيتلاشى ذكره إن لم يدر سريعاً في فلك واحد أو أكثر من تفسيرات مشرف لعملية الاغتيال.
وبغض النظر عن التحقيق، فقد بات من المتحقق أن التفسير السياسي للحدث غالباً ما يطغى على التحقيق أو يطرح نفسه بديلاً عنه، خصوصاً عندما يكون تدبير الحدث محكماً بالشكل الذي يبرع فيه العقل الاستخباراتي في توجيه الظنون والتهم نحو جهات قد تكون بعيدة تماماً عن التهمة. فالرئيس مشرف، أبرز المعول عليهم أميركياً، في الحرب على الإرهاب، سارع إلى اتهام خصمه الإرهابي الذي عجز عن قهره أو حتى عن الحيلولة دون توسعه داخل أفغانستان. لكن ذلك لا يلغي معطيات منها أنه هاجم بوتو في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر واستبعد فوزها في الانتخابات النيابية، علماً بأن حزبها، حزب الشعب الباكستاني، هو أكبر الأحزاب السياسية في باكستان، وكان من المتوقع له أن يسيطر على أكثرية المقاعد في البرلمانات المناطقية، كما في البرلمان المركزي. والأكيد أن معرفة مشرف بقوة بوتو هي التي دفعته، في أوائل العام الماضي، إلى الاتفاق معها على تقاسم السلطة، على ما يؤكده جميع المراقبين أن هذا الاتفاق قد تم برعاية وضغط من قبل الأميركيين المهتمين بتعويم مشرف بعد تراجع شعبيته في ظل التوترات المتصاعدة في باكستان. لكن الاتفاق لم يلبث أن انتكس لأسباب على صلة بسلوك مشرف الواضح في دلالته على نزعاته التفردية، وعلى خوفه من فقدان الفاعلية فيما لو أمسكت قوى المعارضة، وفي طليعتها بوتو وحزبها، بدفة البرلمان.
أنصار بوتو وعائلتها وجهوا إصبع الاتهام إلى جهات عليا قريبة من مشرف في أجهزة الجيش والمخابرات، مع التشديد على أن الاغتيال ربما يكون قد نفذ دون علم مشرف. وإذا كان الأمر كذلك، "فالمصيبة أعظم" لأنه ينبئ عن وجود أيد خفية تمتلك القدرة على تنفيذ مشاريعها حتى ولو تمكن الباكستانيون، على اختلاف تشكيلاتهم، من حلحلة مشكلاتهم. ولحسن الحظ أن أحداً لم يعد يجسر على اتهام الجن بتصفية من تتم تصفيتهم عادة من قبل الأيدي الظاهرة أو العاملة بالوكالة عن تلك الأيدي.
من هنا، وبغض النظر عن هذا التفصيل أو ذاك، أو عن هذه الجهة "السرية" التي تخف إلى تبني هذا العمل أو ذاك لأغراض التلبيس والبلبلة، فإن اغتيال بوتو لا يمكن أن ينفصل عن هذا السيل من التفجيرات والاغتيالات الكبرى التي شكلت، منذ الهجمات على نيويورك وواشنطن، رافعة للفتن التي تبذل الجهود الكبرى من أجل إثارتها وتأجيجها في العالم الإسلامي. وليس من قبيل الصدفة أن يترافق كل ذلك مع الكلام الأميركي المعلن عن الفوضى البناءة وضرورة إشاعتها كسبيل أساسي لإدخال العالم في فضاء الديموقراطية بنسختها الأميركية المعولمة. وليس من قبيل الصدفة أن تتبنى هذه الاستراتيجية بعدما بين احتلال العراق وأفغانستان والحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006، أن زمام رسم الخرائط قد أفلت من قبضة الجيوش التي لا تقهر.
وإذا كان مشرف قد اتبع هذا المسار التسلطي (حالة الطوارئ، عزل قضاة المحكمة العليا، والإجراءات الفاقدة للشرعية التي سمحت بحصولة على ولاية رئاسية جديدة)، فإن ذلك لم يحل، برغم التقديس الأميركي للديموقراطية ولحقوق الإنسان، وبرغم التدخلات الأميركية تحت هذه الشعارات هنا وهناك، دون استمرار تقديم الدعم لمشرف. والأكيد أن هذا الدعم وثيق الصلة بدور مشرف، وغيره من رموز "الاعتدال"، في مكافحة التطرف والإرهاب، أي، في الحقيقة، في الإمعان في ابتداع مشكلات ساخنة لتنحية العمل من أجل التصدي للمشكلات الحقيقية التي تعاني منها مجتمعاتنا. مشكلات ساخنة كفيلة بدفع الأمور نحو المزيد والمزيد من الحرائق الهادفة أيضاً إلى إحراق مشعليها. فالأميركيون الذين تخلوا عن باتيستا وسوهارتو وشاه إيران وبينوشيه وماركوس وأمثالهم برهنوا في الكثير من المناسبات على استعدادهم للتخلي عن أدواتهم حين ظهور عجزها عن الفاعلية. وقد سبق لهم أن وضعوا أنظمة "معتدلة" برمتها على لائحة الشطب من الوجود. وعليه، قد ينبغي النظر إلى وظيفة أعمال الاغتيال كروافع لتسعير الاضطراب الداخلي المفتوح على الفوضى البناءة، بالقدر نفسه من الاهتمام، الذي يتم فيه النظر إلى أعمال الاغتيال بذاتها. يكفي للاقتناع بذلك أن ينظر إلى المجازر وأعمال السطو والدمار التي نجمت، في سياق الوضع المتفجر أساساً والذي تعيشه باكستان منذ عقود، عن اغتيال بوتو. وبالطبع، فإن باكستان ليست حالة مفردة، بل عينة ممثلة للكثير غيرها من بلدان العالم الإسلامي وغير الإسلامي الموضوع على لائحة الشطب الأميركي.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1249 ـ 11 كانون الثاني/ يناير 2008