ارشيف من : 2005-2008
بوش في المنطقة: زيارة رئيس على عتبة الخروج من البيت الأبيض
هل تكفي زيارة رئيس الولايات المتحدة الاميركية الى منطقة الشرق الاوسط لحصول تغيير مؤثر في مسار سياسة واشنطن الخارجية التي تتعثر في كل ملفات المنطقة وتحقيق "انجازات" تقلص من الخسائر المتتالية التي تصيبها؟ وهل تعني الزيارة تحولاً في الاستراتيجيات التي تصنع عادة بعيدا عن وسائل الاعلام ويتولى ادارتها وتطبيقها اشخاص من غير الذين يظهرون على الشاشات ويطلقون تصريحات مكتوبة؟
تكفي الاجابة عن هذين السؤالين لفهم حقيقة وظيفة الزيارة التي وصفت بـ"التاريخية" لجورج بوش الى المنطقة والتي بدأها الاربعاء (9-1-2008) من فلسطين المحتلة لتشمل الضفة الغربية ولاحقاً مصر والكويت والبحرين ودولة الامارات والسعودية، وتستمر حتى السادس عشر من الجاري.
واذا كان بوش يريد ان ينهي ولايته بعد احد عشر شهرا على الاكثر بزيارة اولى له الى كيان العدو على خلفية شخصية، فإن محور زيارته هو مرتكزا المصالح الاميركية: امن "اسرائيل" والنفط وما يتصل بهما من مخاطر ناجمة عن بروز تهديدات غير منظورة لا تبدأ من الطموحات النووية لايران ولا تنتهي عند الحدود الشمالية ولا الجنوبية للارهاب الاسرائيلي.
فمن الواضح ان الكلام المتصل بدفع المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وتسريعها لانجاز اتفاق مع نهاية العام الجاري يقيم دولتين يعيشان جنبا الى جنب ليس له مكان في عقل بوش الا من الباب الدعائي باعتباره قدم ذات يوما مثل هذا الطرح عام 2002، وارفقه بخارطة طريق، لكنه اهمل هذا المسار ليس الا لسبب وحيد هو استحالة تحقق أي سلام فلسطيني اسرائيلي في ظل الشروط والرؤية الاسرائيليين لهكذا سلام لا يمكن ان يقبل به أي فلسطيني. واذا كان مؤتمر انابوليس انتهى الى موجة تشاؤم فإن شيئا لم يتغير ليقال ان هناك احتمالات للحل بعد زيارة بوش، بل ان تكثيف عمليات الاستيطان، وجرائم الاغتيال والقصف على غزة وتضييق الخناق عليها حتى الموت، لا تفتح أي نافذة، وبالتالي فإن كتبة خطابات بوش وتصريحاته بهذا الشأن يعرفون ان ما يملونه على رئيسهم ليس سوى عملية علاقات عامة لا تسعفها تمسكه بـ"اسرائيل دولة يهودية"، وان ما هو محفور بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي منذ اكثر من ستين عاما لا يمكن حله لمجرد ان من سيغادر البيت الابيض قريبا يريد ان يتوج ولايته الاخيرة بإنجاز حاول قبله والده وخلفه بيل كلينتون فأخفقا لما وصلا الى خطوط التماس الفكرية والعقائدية.
اما الهدف الحقيقي لوجود بوش الى جانب ايهودا اولمرت كما صرح الاخير فهو ايران، ومعها طبعاً حلفاؤها الذين باتوا من وجهة نظر صناع القرار الاميركي والاسرائيلي يشكلون خطراً وجوديا على "اسرائيل" والمصالح الاميركية على الخط الممتد من طهران وصولا الى بيروت مرورا ببغداد ودمشق وغزة وما يتصل بهم من مساحات نفوذ تعمل فيها القوة الايرانية في جغرافيا الشرق الاوسط والجوار.
واذا كان اولمرت يستأنس بحليفه الاستراتيجي الذي ورطه في حرب تموز عشية التقرير النهائي للجنة فينوغراد اواخر هذا الشهر، والتي ستصيب رئيس الوزراء الاسرائيلي في الصميم حيث سيستميت حتى لا يستقيل، فإن طريقة تفكير الرجلين في التعامل مع هذا الخطر تتكئ على سيل من الاخفاقات تشكل حرب تموز في لبنان واجتياح العراق نموذجين لما ينتظرهما في حال المغامرة مع ايران.
فقبيل مغادرته واشنطن حصل "الحادث المنظم" بين زوارق بحرية الحرس الثوري الايراني وبوارج البحرية الاميركية في مضيق هرمز والذي اظهر جرأة ايرانية لافتة في التعاطي مع الاسطول الاميركي و"التحرش به" خارج المياه الاقليمية الايرانية وفقاً للتصريحات الاميركية التي عظمت من "الاستفزاز" فيما تعاطت معه طهران ببرودة اعصاب واعتبرته حادثا عاديا، وتحدثت عن كيفية توقيف البوارج واخذ المعلومات اللازمة عنها قبل ان تسمح لها بإكمال طريقها. واثناء وصوله استقبل بوش بعدد من القتلى في صفوف جنوده في العراق، وبسيل من الصواريخ الفلسطينية على مستوطنات اسرائيلية، كتعبير من رفض فصائل المقاومة سواء في العراق او فلسطين لهذه الزيارة وخلفياتها الحقيقية.
وعليه فإن كل الكلام الذي يقوله بوش سواء ذلك المنمق والمشبع بعبارات من وحي عقائد بوش الدينية او تلك المتصلة بخطاب الحرية، فإنه يدور في فلك واحد: تصنيفه ايران "تهديداً" للسلام العالمي وتمسكه بالتحالف الاستراتيجي مع "اسرائيل" لمواجهته، وحثه العرب على مد اليد لها ورفعها في وجه ايران، وهو وضع شعارا معلنا لجولته: احتواء نفوذ ايران وطمأنة حلفائه بالتزام امنهم برغم التقرير الاخير للاستخبارات الاميركية بشأن تخلي ايران عن برنامجها النووي العسكري،
واستنتاجها انها تبدو اليوم اقل تصميما على امتلاك السلاح النووي منها قبل سنتين، برغم ان المخاوف المستمرة ناشئة من مواصلة ايران اختبار انواع جديدة من الصواريخ واستمرارها في تخصيب اليورانيوم، وهما اثنان من العناصر الثلاثة التي يتكون منها برنامج نووي عسكري كما يقول هؤلاء.
واذا كان بوش يكرر القول ان الخيار العسكري ضد ايران لا يزال قائماً، لكنه سيستنفد كل الوسائل الدبلوماسية لحل الازمة قبل اللجوء الى القوة، ولن يترك حلفاء واشنطن لا في "اسرائيل" ولا في الخليج وحيدين في مواجهة "الخطر" الايراني، فإن مجمل التحليلات التي نشرت قبيل واثناء الزيارة تجزم بأن بوش لن يحصل على أي تأييد عربي لشن ضربة عسكرية ضد ايران برغم ما يثار من مخاوف لدى دول الخليج من برنامج ايران النووي، لان المخاوف ستكون اشد اذا حدث عمل عسكري، ولان الولايات المتحدة قد لا تنهي ايران كقوة عسكرية، وانما قد ينتج عن ذلك ردود فعل ايرانية ضد دول الخليج ستكون اكبر من طاقتها.
اما الخلفية الحقيقية للتهويل فإنها تتعلق بالحرفة التقليدية الاميركية في كيفية اختراع الاخطار وترجمتها في سوق بيع السلاح المرفق بدراسات واقتراحات، كالتي عبر عنها وزير الحرب الاميركي روبرت غيتس بدعوته الى انشاء "مظلة جوية وصاروخية" فوق منطقة الخليج لحمايتها من صواريخ ايران، بالتزامن مع اعلان "البنتاغون" الشهر الماضي عن عروض لبيع الامارات والكويت صواريخ باتريوت مضادة للصواريخ وانظمة للانذار المبكر بقيمة عشرة مليارات دولار، وامكانية بيع السعودية نظام "اواكس" محدثا للانذار المبكر بقيمة 400 مليون دولار، وكلام بعض الخبراء عن رغبة الولايات المتحدة بأن تنشئ في الخليج خطا ثانيا من الصواريخ يكون امتدادا للخط الاول المزمع انشاؤه في شرق اوروبا من اجل "تطويق روسيا"، وذلك بحجة ان ايران "تشكل خطرا" على دول المنطقة، كل ذلك يقع في صلب تنشيط تجارة السلاح الاميركي من جهة وامتصاص الكتلة المالية الضخمة الناجمة عن ارتفاع اسعار النفط وما تحققه من مداخيل عالية لدول الخليج من جهة أخرى.
واذا كان بوش ابلغ الاسرائيليين رسميا ان بلاده ستقف معهم اذا تعرضوا لهجوم من ايران وفق ما صرح، فإنه يأتي للحديث مع دول الخليج حول السبل غير العسكرية للضغط على طهران مثل الحد من علاقاتها الاقتصادية مع الجمهورية الاسلامية، لكن حتى في هذا الامر ثمة عقبات ضخمة سببها اولا سياسة الانفتاح التي تنتهجها الجمهورية الاسلامية ازاء دول الجوار العربي والاسلامي، وثانيها تشابك المصالح والمنافع بين ضفتي الخليج. فمثلاً أقصى ما يمكن ان تقبل به الامارات مثلاً حسب بعض المحللين هو تطبيق بعض الاجراءات مثل تشديد الضوابط على المعاملات المصرفية المتعلقة بإيران،من دون ان تصل الى حد المقاطعة الاقتصادية الكاملة لان ذلك سيضر بالاقتصاد الوطني للامارات ولدبي بصفة اساسية، وهذه على سبيل المثال عينة مما يواجهه خيار العقوبات الاميركي ضد ايران.
وبمعزل عما ستخرج به هذه الزيارة التي لن تغير التصريحات فيها شيئا فإن الاشهر المتبقية لولاية بوش تبقي المنطقة في دائرة الخطر الاميركي والاسرائيلي الناجم عن بحث واشنطن وتل ابيب المستمر عن كيفية معالجة ما يسمونه الخطر الايراني التقليدي وغير التقليدي، والخلاصات التي سيعتمدونها ازاء تعاظم هذا الخطر.
عبد الحسين شبيب
الانتقاد/ العدد1249 ـ 11 كانون الثاني/ يناير 2008