ارشيف من : 2005-2008
سيرة المساعي العربية حيال لبنان ومسارها: إقدام وإحجام حسب الخارج والداخل
ليست المرة الأولى التي يأتي فيها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى بيروت ويشرع في جولات مكوكية على القوى والفعاليات بقصد المساعدة على انضاج تسوية تضع حداً للأزمة اللبنانية التي دخلت منذ شهر ونصف شهر عامها الثاني على التوالي.
فمنذ مطالع هذه الأزمة وبداياتها، حط الديبلوماسي المصري المخضرم، رحاله في بيروت باحثاً عنه حل يحول دون انزلاق الوضع اللبناني المتوتر إلى مهاوي المأزق، ولا يزال الكثيرون يذكرون مشاعر القلق والاستياء تسكن قسمات وجه موسى، وهو يعقد مؤتمره الصحافي الشهير عشية مغادرته بيروت قبل أيام قليلة من بداية العام الماضي معرباً عن تخوفه ومفصحاً عن خشيته من بلوغ الوضع اللبناني الدرك الأسوأ.
كما أن صورة الرجل ما زالت حية في أذهان الكثيرين إثر عودته مجدداً إلى بيروت قبل أيام من انتهاء ولاية الرئيس السابق اميل لحود، وبروز مخاطر حصول فراغ رئاسي يحمل في طياته مخاطر جمة.
لم ينجح موسى حينها كما حصل مع وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير ووزراء خارجية الترويكا الأوروبية، في الحيلولة دون انطفاء الأنوار في قصر الرئاسة الأولى في بعبدا، ولكنه نجح وفق ما قيل في الانتقال السلس إلى مرحلة الفراغ المنظم إذ أنه كان عرّاب تفاهم ضمني قررت بموجبه المعارضة الكف عن تنفيذ فكرة انشاء الحكومة الثانية، فيما تراجعت الموالاة عن تنفيذ مقولة انتخاب رئيس يكون من نسيجها أو رحمها السياسي بنصاب النصف زائد واحد، وهو ما هددت به طويلاً خلال الأشهر الثلاثة التي سبقت نهاية موعد الاستحقاق الرئاسي، على أن تبقى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة اللاشرعية واللاميثاقية تصرف الأعمال بالحد الأدنى ولا تستخدم صلاحيات رئيس الجمهورية.
وهكذا أخفق ممثل النظام الرسمي العربي في انضاج حل وتسوية لكنه أفلح إلى حد ما في رعاية وحلّ مؤقت يضع البلاد برمتها على شفا الانفجار، لكنه يمنع انحدارها اليه.
وعليه فإن السؤال المطروح بإلحاح الآن في الأوساط السياسية اللبنانية هو هل سينجح موسى صاحب النظرية الداعية إلى التفاؤل، هذه المرة في أن يعلن باسم العرب نجاح ما صار يعرف في القاموس السياسي العربي خطة العمل العربية لحل الأزمة اللبنانية؟ واستطراداً لماذا يعود العرب في هذا الوقت بالذات لمقاربة الأزمة اللبنانية عبر خطة بعدما بدا واضحاً خلال الفترة الماضية أنهم كانوا ينفضون ايديهم منها، أو في أحسن الأحوال يطلقون بين الفينة والأخرى تمنيات بالحلّ ودعوات إلى الهدوء وضبط النفس.
تتعدد القراءات وتتكاثر التحليلات حول الأسباب والدواعي التي دفعت العرب إلى ولوج عمق الأزمة اللبنانية بخطة عمل تبدو هذه المرة واضحة المعالم والمراحل.
فالبعض يرى أنها تأتي لترجئ تحركاً قوياً منظماً كانت المعارضة قد وضعت تفاصيله وحددت ساعة الصفر للشروع بتنفيذه لزيادة الضغط على حكومة السنيورة التي صارت في أضعف حالاتها، واجبار الفريق السياسي المحتضن لها على الانصياع لمطالب المعارضة.
ولا يخشى البعض الآخر من القول صراحة بأن العرب أتوا في لحظة بدا واضحاً أن فريق الموالاة بات في حالة إنهاك وإعياء وعجز تام عن القيام بأي فعل يترجم عملياً قدرة يدعيها على التأثير في مجرى الأحداث، وإخراج نفسه ومشروعه السياسي من عنق زجاجة الأزمة التي يلج فيها يومياً أكثر فأكثر، وهو ما بدا واضحاً وجلياً من خلال عجز هذا الفريق المكابر، عن الاتيان برئيس من لدنه، ومن ثم من خلال مسارعته إلى القبول بترشيح قائد الجيش العماد ميشال سليمان مرشح تسوية للرئاسة الأولى وقبوله بتعديل الدستور بغية تأمين انتقال هذا الرجل من اليرزة إلى قصر بعبدا، وهما أمران كان هذا الفريق يدرجهما عادة في خانة المحرمات، لا بل أن ركناً أساسياً من أركان مقولته السياسية قامت على أساس رفض تعديل الدستور في صيف عام 2004 للتمديد للرئيس اميل لحود.
ولم يعد خافياً أن هذا الفريق نفسه قد رفض رفضاً مطلقاً قبل فترة قصيرة، توجهاً مصرياً كان يدعوه إلى القبول بترشيح سليمان للرئاسة الأولى، وهو التوجه الذي نقله وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، إلى بيروت في زيارة قام بها في منتصف الصيف الماضي، وقال فيها لفريق الموالاة جملته الشهيرة: "أنصحكم بتبني ترشيح هذاالرجل (سليمان) لأنه "عالبارد حتخذوه وعالسخن حتخذوه، خذوه من الوقت".
لم تكن هذه المرة الأولى التي يقارب فيها العرب في العام المنصرم محاولات إيجاد الحلول والتسويات للأزمة اللبنانية، فالمعلوم أن السعوديين بذلوا جهوداً في هذا المجال عبر سفيرهم في بيروت، ولكنها كانت ملتبسة وضبابية على الدوام، ففي لحظات معينة، وبالتحديد في لحظة شعور فريق 14 شباط بأن رياح هذه الجهود تتجه بخلاف ما يشتهونه، وفي لحظة تشعر فيها الادارة الاميركية، أن ثمة مساعٍي حثيثة وجدية للحل، ربما تفضي إلى تسوية ترغب هي بحدوثها، أو ترى أنها تخالف عمق توجهاتها، كان السعوديون يبادرون إلى الانسحاب سريعاً من "اللعبة" تحت شعار أنهم لم يكونوا يحملون مبادرة متكاملة بقدر ما كانوا ينقلون أفكاراً، أو يسعون إلى تقريب وجهات النظر بين الموالاة والمعارضة تمهيداً لبلورة الحل المرتجى، والجميع في هذا الاطار يتذكر جولات السفير السعودي الشهيرة على بعض رموز الطرفين. وعملياً، وإذا كان ثمة من قراءة شاملة لتجربة الوساطات والمبادرات العربية حيال الأزمة اللبنانية خلال العام الأول من عمر هذه الأزمة المقيمة بعناد فهي تقوم على العناوين العريضة الآتية:
1 ـ لم تكن هذه التجربة تنطلق من أفكار متكاملة ومترابطة، بل أنها كانت تنطلق بشكل خجول يسمح لأصحابها بالانسحاب أو التحلل من مسؤولياتها عبر القول انها محاولات لتقصي الموقف والوقوف على وجهات نظر أفرقاء النزاع.
2 ـ إن هذه المبادرات كانت في كثير من الأحيان تأتي لملء الفراغ الحاصل، ولإثبات الوجود حتى لا يقال إن العرب غائبون عن ملف الأزمة اللبنانية.
3 ـ انها كانت دائماً تتم تحت العين الاميركية الساهرة على حراسة الأزمة اللبنانية وإبقائها جرحاً مفتوحاً وفي ظنها أن ذلك يسيء إلى المعارضة ويضعضعها، وانها تريد ربط الملف اللبناني المفتوح بملف المنطقة الملتهبة ككل.
وعليه، فإن العرب كانوا يتطلعون دوماً إلى تفاصيل الوجه الاميركي وردود فعله وهو يراقب ويرصد بدقة حركتهم ووساطتهم والمدى الذي بلغته، لكي يعرفوا متى يقدموا ومتى يحجموا وينكفئوا إلى الظل.
4 ـ ان هذه المبادرات العربية، كانت تأتي دوماً وفي أعماق نيات أصحابها الضغط على سوريا من خلال البوابة اللبنانية وتصفية الحسابات معها، أو على الأقل تنفيذ شعار ما صار يعرف بعدم السماح لدمشق بالعودة إلى الساحة اللبنانية والتشخيص نفسه ينطبق على الجمهورية الاسلامية الايرانية، إذ لم يكن بعض العرب يخفون أن ثمة رغبة لديهم بالتحرك في الساحة اللبنانية وملء الفراغ لكي لا تأخذ ايران راحتها فيه.
5 ـ دائماً وأبداً كان العرب في مقاربتهم لحل الأزمة اللبنانية يبحثون عن سبل لإرضاء فريق الموالاة ويهملون شعار المعارضة الأساسي وعلة تحركها وانتفاضتها الدائمة على الموالاة وحكومة السنيورة، وهو حق المشاركة في القرار الوطني، رفضاً لسياسة الاستئثار والهيمنة التي اتبعتها وعملت بهديها منذ أن قيض لها الإمساك بزمام السلطة والحكومة.
وعلى ما تقدم فإن السؤال المطروح هو إذا كانت تلك هي السمات العامة التي طبعت التحرك العربي طوال الأشهر الماضية فهل ثمة تغير وتبدل في التحرك الحالي الذي تمخض عبر ما صار يعرف بالمبادرة العربية الجديدة، من شأنه أن يقلب الصورة النمطية لهذا التحرك.
بالتأكيد ثمة مقاربة عربية جديدة للأزمة اللبنانية وبالتحديد لملف الاستحقاق الرئاسي، فرضتها سلسلة وقائع على الأرض يأتي في مقدمها صمود المعارضة، واستعدادها للمنازلة والمواجهة بغية الإجهاز على ما تبقى من السلطة الخائرة القوى والمحاصرة منذ زمن.
وأبرز المظاهر الجديدة في التحرك العربي أنه يتبنى مطلباً أساسياً للمعارضة ورفضته باستمرار قوى الموالاة وهو السلة المتكاملة، أي الاتفاق على مرحلة ما بعد انتخاب رئيس الجمهورية، وبالتحديد الحكومة المقبلة، وبذا يكون العرب يلجون ملف الأزمة اللبنانية هذه المرة من بابها الصحيح، وتبقى العبرة بطبيعة الحال في ترجمة الأفكار وتنفيذها.
هل هي صحوة عربية متأخرة أم هي يقظة ضمير؟ واستطراداً هل هي بيعة أميركية للعرب؟
ربما كل ذلك صحيح، ولكن الثابت والأكيد هو أن في طيات المسعى العربي تتجلى بوضوح رغبة في انقاذ فريق السلطة والحيلولة دون جعله يدفع المزيد من الأثمان.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد1249 ـ 11 كانون الثاني/ يناير 2008