ارشيف من : 2005-2008
المبادرة العربية.. وحرب التفسيرات: استباق للتفاوض.. أم للإفشال
كتب مصطفى الحاج علي
لا يستطيع اللبنانيون إلا أن يرحبوا بكل مسعى أو مبادرة تهدف لإيجاد مخرجٍ لأزمتهم السياسية والوطنية التي يتخبطون فيها منذ أكثر من عام، ولا يستطيع اللبنانيون إلا أن يأملوا خيراً من كل تحرك بهذا الاتجاه.
لكن من حق اللبنانيين أيضاً أن يتعاطوا بحذرٍ شديد إزاء كل مبادرة، ليس فقط لأنهم لا تنقصهم المبادرات، وليس لأن المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرتين، وليس لأن "من جرّب المجرب كان عقله مخرّب" كما يذهب المثل الشائع، وإنما لاعتبارات محض سياسية، يمكن إيجاز أبرزها وفق التالي:
أولاً: إن الصراع السياسي في لبنان ليس صراعاً فوقياً، بمعنى أنه ليس صراعاً على مكسب هنا، أو مكسب هناك، وإنما هو صراع على الأساسيات، التي يتوقف على حسم هويتها حسم هوية لبنان الوطنية بأسرها، وعندما يكون التناقض السياسي من هذا الصنف تصعب إلى حدّ كبير امكانيات التوصل إلى تسويات فعلية، وأن أفضل ما يمكن تصوره هو نوع من التبريد لحرارة هذا التناقض، أو نوع من الاحتواء له كيلا لا تفيض تداعياته ونتائجه على ما حواليه، وخصوصاً في أوقاتٍ يعدها البعض قاتلة بالنسبة له.
ثانياً: استناداً إلى ما تقدم، فإن مفردات الاستئثار والشراكة التي دخلت القاموس السياسي المحلي بقوة ليست مفردات لا معنى لها، وتنحصر وظيفتها السياسية في البعد الجدالي ومحاولة استمالة الرأي العام اللبناني وحتى الخارجي، فحرص فريق السلطة أو الموالاة على الاستئثار جزء لا يتجزأ من استراتيجيته الخاصة بنقل لبنان من موقع إلى موقع آخر، ومن دور إلى دور آخر، وبالتالي اعادة صياغة هويته الوطنية ووظيفته الداخلية والخارجية استناداً إلى متطلبات المشروع الأميركي في المنطقة.
في المقابل، فإن حرص فريق المعارضة على مطلب المشاركة، من خلال الحصول على ضمان الثلث الضامن، ليس إلا محاولة منه لفرملة المشروع الأميركي الهادف إلى إعادة صياغة مكونات السلطة استناداً للمحددات الوظيفية لهذا المشروع.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار، أن صيغة حكومة الوحدة الوطنية التي تطرحها المعارضة، توفر للطرفين حق النقض المتبادل في القرارات الأساسية، ما يعني حكماً فرض ضبط حركة السلطة في المسار الوطني البحت، وبالتالي انتاج أو فرض بناء سلطة وطنية فعلية.
وفي مطلق الأحوال، إن تمسك كل من طرفي الموالاة والمعارضة بموقفه سيعني حكماً استحالة انتاج أي تسوية داخلية.
ثالثاً: ثمة أزمة ثقة عميقة ومتجذرة بين فريقي المعارضة والسلطة لا تعود فقط إلى تباين المنطلقات والحسابات والمصالح والأهداف، وإنما تعود أيضاً إلى ما سطرته التجارب، وفي هذا الإطار، يكفي استحضار تجربة انقلاب فريق السلطة على الاتفاق السياسي الرباعي، وعلى البيان الوزاري، وانقلاب الوزراء المحسوبين على الرئيس لحود عليه، وأخيراً سلوكيات هذا الفريق إبان عدوان تموز وبعده.
أزمة الثقة هذه هي التي تفرض البحث عن توفير ضمانات ليس فقط على الأرض، وإنما في صيغ انتاج أي حل، خصوصاً في تشكيل الحكومة. فمسألة الثقة هنا ليست مسألة أو حالة شخصية، وإنما حالة سياسية قوية، وبالتالي لا يمكن معالجتها إلا من المدخل السياسي.
رابعاً: لا تبدو العلاقات السعودية ـ السورية، والمصرية ـ السورية في أحسن أحوالها، فما بين دمشق والقاهرة والرياض ترتفع اليوم حواجز عالية، من تباين المصالح، والارتباطات، اضافة إلى أزمة الثقة أيضاً.
ولا يظهر، حتى الآن، أن أياً مما تقدم قد وجد طريقه إلى الحل، بل على العكس من ذلك فثمة مؤشرات عدة على أن احتمالات تسوية هذه العلاقات ليس بالأمر السهل.
خامساً: من يقرأ أهداف زيارة بوش إلى المنطقة وفق ما هو أعلن تحديداً، يظهر له بوضوح، أن الهدف المركزي هو احتواء تداعيات الفشل الاستراتيجي الأميركي في المنطقة من خلال بناء السدود والعقبات أمام احتمالات أن يقطف محور المقاومة ثمار هذا الفشل لمصلحته.
وهنا، لا نشهد تكتيكات أميركية واحدة، وانما متنوعة، ومتكيفة بحسب مقتضيات كل وضع أو حالة على حدة: في افغانستان سعي لوقف الانهيار الشامل، في العراق محاولات لتقليل الخسائر، واحتواء ما تسميه نفوذ إيران في العراق، في فلسطين اطلاق يد الآلة الحربية للعدوانية الاسرائيلية للقضاء على حركة حماس، ولمصلحة سلطة أبو مازن، في لبنان حماية فريقها ومنعه من السقوط الشامل من خلال قطع الطريق على أي تسويات يشتمّ منها رائحة هزيمة لهذا الفريق، مع سوريا تعويم سياسة الضغوط بأشكالها المتنوعة.
سادساً: ان استراتيجية واشنطن وحلفائها إزاء لبنان يمكن ايجاز عناصرها بالتالي:
ـ الهدف ابتداءً حماية فريق السلطة ومنعه من السقوط، أما الهدف الأصلي فيبقى متمثلاً بتمكين هذا الفريق من الإمساك بكل مفاصل السلطة لمصلحة المشروع الأميركي.
ـ إن انجاز هذا الهدف يصطدم بعقبتين أساسيتين: قوة المعارضة بركائزها المتنوعة عموماً، وبحزب الله، وعون تحديداً. ان عملية شطب أو اضعاف حزب الله فشلت، لذا، انتقل التركيز مؤخراً على عون.
ـ استدعاء مختلف أنواع الضغوط على قوى المعارضة، وعلى حلفائها الاقليميين سوريا وايران.
سابعاً: كل ما تقدم يشكل السياق العام لقراءة المبادرة العربية، ولمحاولة استخراج خلفياتها والمسكوت عنه فيها، ليس لإثارة الشكوك، أو وضع العصي في دواليب الحل، وإنما لصياغة حل واضح النوايا والأغراض، ويكون وطنياً صرفاً ولمصلحة الجميع.
وفي هذا الإطار، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
ـ إن شرط أي مسعى توفيقي ناجح، أن تكون عناصره واضحة، وغير قابلة للتأويل والأخذ والرد، عندما يصاغ الحل بوضوح، هذا يعني حتماً أنه حل ناضج، وأنه يعكس توافقاً حقيقياً. في حين أن أي صياغات حمّالة أوجه، فهذا يعني أن الأمور ما زالت غير ناضجة، وأن التوافقات لفظية، ولا معنى حقيقياً وراءها. وبالتالي، فإن الأمور ستبقى خاضعة للأخذ والرد.
ـ إن حرب التفسيرات التي سبقت زيارة عمرو موسى تؤكد ما سلف، وأكثر من ذلك تؤكد أن المبادرة لم توضع لتنجح بقدر ما قد تكون وضعت لأغراضٍ أخرى تبني على فشلها، وفي أحسن الأحوال، فإنها قد تشكل محاولة لتقطيع الوقت، وفي أسوأها، فإنها محاولة لتبرير خطوات لاحقة يحضر لها مع واشنطن، والتي كشف بعضاً منها الرئيس بري عندما حذر من تدويل الاستحقاق الرئاسي أو الحل الخاص بالأزمة الحالية.
ـ ما يؤكد هذا الاستنتاج هو أن الجميع بات يعرف تفاصيل مواقف الأطراف وشروطها للحل عن ظهر قلب، وبالتالي لا حاجة لمزيد من المفاوضات والأخذ والرد، وكان على المبادرة العربية أن تأتي بصياغات واضحة لا حمّالة أوجه.
ـ في كل مرة يطرح فيها حل للأزمة اللبنانية ويرفضه فريق الموالاة نلاحظ أن الرفض يرتكز على منع المعارضة من المشاركة الحقيقية في السلطة، ما يعني اصراره على الاستئثار، وللمحافظة على الاستئثار طريق واحد، التلاعب بمواقع وأدوار اللاعبين الأساسيين في السلطة وخارجها، وبما يؤدي إلى انجاز هذا الهدف، ولذا فكل الصيغ التي تقدم عادة للحكومة هي صيغ يراد منها ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، بهدف الاحتفاظ بالسلطة.
خلاصة القول، نحن أمام مبادرة ومسعى عربي مرحب به، لكن كل شيء محيط بهما يدفعنا إلى الحذر.
الانتقاد/ العدد1249 ـ 11 كانون الثاني/ يناير 2008