ارشيف من : 2005-2008
أميركا قوة عمياء
الاهتمام الأميركي. هناك سبب رئيسي لذلك يتعلق بالوسيلة الرئيسية التي تستخدمها أميركا وهي القوة. العقل الأميركي الجبار دون شك تنقصه الفلسفة السياسية. تلك كانت ميزة العقل الاستعماري الأوروبي في القرن التاسع عشر. في تاريخ تعامل أميركا مع الخارج يتصدر دور «السي. آي. إي». هذا الذراع السري لأميركا هو التجسيد الحي لوجه المؤامرة من سياسة أميركا. في رأس مهمات هذا الذراع سلسلة لا تنتهي من الاغتيالات السياسية والانقلابات العسكرية وأعمال التخريب والإرهاب. الإرهاب بمعناه الحقيقي صناعة أميركية مضادة «للعنف الثوري» الذي استخدمته حركات التحرر الوطني واليسار عموماً.
حروب التدخل الأميركية في العالم ركّزت على التأثير في النخب العليا. إزاحة النخب أو تدعيمها. تاريخ أميركا الجنوبية والوسطى خير شاهد على ذلك. كان الدفاع عن «العالم الحر» في وجه «الشيوعية» هو الذي يبرر كل الوسائل. باسم مكافحة الخطر الشيوعي تخلت أميركا عن مبادئ ولسن وتجاوزت مواثيق حقوق الإنسان وصارت طرفاً رئيسياً في مواجهة حركات الاستقلال الوطني. تدريجياً ورثت أميركا مواقع الاستعمار القديم ودعمت كل الدول الدكتاتورية والمحافظة. فجأة تغيّر العالم ودخلنا في العصر الأميركي «الوحيد القرن».
افتتحت أميركا القرن الحادي والعشرين على أوسع حرب شنتها في منطقة «الشرق الأوسط». إذا تعاملنا مع الوقائع لا مع التصريحات وإعلان النوايا، فإن ما حصل منذ أحداث 11 أيلول يؤكد فكرة «المؤامرة». كان لا بد لأميركا من البحث عن عدو يبرر الحرب. بشكل أو بآخر فإن الحرب على «الإرهاب» ونظرية أو استراتيجية «الحروب الاستباقية» كانت تحتاج إلى افتعال الخطر والتهديد الذي يطاول «الأمة الأميركية» بل السلم العالمي. لكن السيّاف الأميركي يزداد شهوة كلما قطع رأساً.
لم يكتفِ بتسجيد «الشر» في مجموعات وزعماء وأنظمة «كالقاعدة» وصدام وإيران وحماس و(حزب الله» بل وسّع دائرة أهدافه نحو «الفاشية الإسلامية»، ونحو «التطرف» و«الأصولية» والإسلام السياسي الحركي بمختلف أشكاله. سقطت الشيوعية، وسقطت القومية العربية التي واجهها مع عبد الناصر، ولم يبق إلا الإسلام.
في الشرق الأوسط كانت الشيوعية والقومية أفكاراً أوروبية مستوردة، وهي تستهدف إعادة تشكيل النظام السياسي أو تطوير نظام الحياة ونمطها الاجتماعي. أما الإسلام، فهو شيء مختلف. إنه دين وثقافة وأسلوب حياة. لم يعد الشرق الأوسط إلى الإسلام بل هو تعرّى من الإيديولوجيات والوسائل التي اكتسبها من الغرب ومن أسلحته الفكرية وراح يواجه بمكوناته الفطرية التقليدية. هذه الإشكالية مردّها انقطاع الحوار بين الشرق والغرب. في المواجهة مع أوروبا رفع العرب شعار القومية التي هي تراث أوروبي في مواجهة الإسلام العثماني، فخذلتهم أوروبا. لكن لغة مشتركة كانت بينهما. وفي مرحلة أخرى لعب الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي دور الوسيط الآخر، فسقط هذا الوسيط وسقطت لغة مشتركة أخرى.
بأي لسان اليوم يمكن محاورة أميركا؟ تقترح أميركا نظرياً الأخذ بالوسائل «الديموقراطية وحقوق الإنسان». النموذج الأميركي الحي هو حروب على الإنسان من العراق إلى فلسطين ولبنان. أميركا تقترح الحرب على المنطقة ولا تطرح حواراً. المنطقة ترد على أميركا بآخر ما تملك «الأجساد المشلّعة». النخب الباقية من عهد الثقافة الأوروبية ومن تراث الاشتراكية تحاصرها أميركا أصلاً. ممنوع على العرب أن يشكلوا أمة متحدة، ممنوع على العرب أن يبنوا تنمية حقيقية تؤكد استقلالهم بمواردهم، وممنوع على العرب الآن أن يحتفظوا بجلدهم الأسمر، وممنوع عليهم أن يشاركوا بصفتهم عرباً أو مسلمين في اكتساب وسائل القوة التي نهض بها الغرب وصار الآن يتحكّم بمقادير العالم.
لكن العصر الأميركي المتوحش الذي انطلق بالحروب لإخضاع العالم بالقوة والإفراط بالقوة، يسرّع وتيرته ويختصر زمانه. العنف الأميركي يستدرج العنف المضاد. والفاشية الأميركية تستدعي «الفاشية الإسلامية». والإرهاب الأميركي الدولي المنظم العملاق يواجهه الإرهاب البدائي المتخلف، لعل الغول الأميركي يموت متخماً من دم الشعوب ولحمها.
أمس تزلزلت الأرض في باكستان. أكان اغتيال «بوتو» إرهاباً إسلامياً أم إرهاباً أميركياً مدبراً، أم هو بقرار من الحليف الفاشل في السلطة لأميركا، فقد دخلت باكستان في منظومة الأمن الأميركي المختل. هل قدّمت أميركا «بوتو» ضحية لقطع المسار الديموقراطي المناهض لها، أم جاءت بها لاحتواء المسار الديموقراطي وأخذه باتجاه ليبرالي فاصطدم بأدوات أميركا أو بخصومها في الإسلام المتشدد؟. إن النتيجة واحدة. إن سياسة القوة الأميركية في المنطقة لتطويعها باتجاه نظام تابع وخاضع وأمني وبأدوات محلية لا تعكس شرعية الشارع وطموحاته ومشاعره، هي سياسة فاشلة. الأموال التي تنفقها في الحرب على «الإرهاب» من أجل بناء نظام دولي مستقر لنهب الموارد سيفيد شركاتها العملاقة ولا يفيد مشروعها السياسي. أميركا ستواجه قريباً ذاتها، النظام الأميركي والشركات. النخب الاقتصادية والثقافية التي استولت على قرار الإدارة الحالية هي التي عجّلت في انقضاء العصر الأميركي الطامع في اختصار التاريخ به وإغلاق باب المستقبل على البشرية جمعاء.
هذا العبث الأميركي «بالشرق الأوسط» هو كارثة القرن الحادي والعشرين. المشروع الأميركي وباء معدٍ اسمه الفوضى. أميركا قوة عمياء. يغامر بمصيره ومصيره بلاده من يركب في قاطرتها.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية