ارشيف من : 2005-2008
شعر كربلائي في المشهد الفلسطيني
منذ فاجعة كربلاء صيغ شعر بمداد الدماء وتفجّر ينابيع تضج بصليل المعركة والموقف، فتجاوز أفقاً وأرضاً، مستشرفاً الانتصار لقيم الحسين (ع). وإذ أشرق الشعراء وعياً ورفضاً للموت والهزيمة، فقد واجهوا بذلك حيرة الزمان واشتداد الطغيان من خلال استحضارهم الحسين رمزاً تاريخياً خالداً في الوجدان والصدور، وصاحب قضية عرف سلفاً أن معركته مع الباطل هي الشهادة والدم الذي يغلب السيف. فكيف يظهر لون صرخته في جراح اليوم؟ وكيف يُمثل الوجع الفلسطيني بلوحة كربلاء؟
لقد حضر الإمام الحسين (ع) في زماننا ومكاننا بما تزخر به كربلاؤه من رموز الجراح والغضب والحزن وخذلان الثائر العظيم من مؤيديه وطمس الحقائق، وبما في مآسيها من القيظ والعطش والقسوة والقتل الجماعي وحزّ الرؤوس ـ كما يقول جبرا إبراهيم جبرا ـ مأساة الخيانة والجنون البشري ومأساة المروءة والفضيلة.. ولكن الحسين (ع) أكبر من الحياة، ولعله ـ لكبره وعلوّه ـ خارج الدائرة التي يمكن للمرء ضمنها أن يتوحد مع البطل برغم تطلعه اليه، فيبقى التعبير قاصراً عنه برغم مداه الفاعل. ويأخذ رمز الحسين موقعاً عميقاً في اتحاد البلاد، فهذا "قاسم حداد" يستدعيه ليكون راية للسائرين تتجاوز الحدود نحو هدف أعلى، مسمياً نصّه "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة":
"نسير ونعرف كيف نشق التراب ونبذر داخله..
فنحن الحسين المسافر من كربلاء..
ورأس الحسين الممزق بين دمشق وبين الخليج.
وهذا نص بعنوان العودة إلى كربلاء لأحمد دحبور يحكي الفلسطيني الانسان الذي ووجه بالخذلان وأُدخل إلى النار وفار دمه ودم أهله، في إشارة إلى كربلاء الفلسطينيين، حيث الحصار والبحث عن ماء في زمن العطش، فهو يصل إلى كربلاء برغم الطرق المغلقة وبرغم مشقة الطريق، وهناك يجد الحسين وحيداً في المواجهة، بينما تقاسم الآخرون أسرارهم وثمر النخيل:
"شاهدتهم ومعي شهودي
أنت والماء الذي يغدو دماً
ودم لديهم صار ماءً
والنخيل
شاهدتهم ـ عين المخيم فيّ لا تخطئ ـ وكانوا تاجراً ومقامراً ومقنعاً كانوا دنانير النخيل
ودخلت في موتي وحيداً أستحيل
وطناً فمذبحة فغربة
يا كربلاء تفور في النار
أذكر كيف تتقلب الوجوه"..
إذاً ثمة وجع جامع كما ثمة وصمة تمتد انتصاراً لكل النبل وتدمغ جبين التاريخ الميت في صمته وكل الصامتين في موتهم، وهذا ما يعبّر عنه "عبد الرزاق عبد الواحد" في بعض قصائده:
"يا حسين
إن للصمت في أرضنا آيتين
أن يكون كريماً عظيماً رحيماً كصمتك
ممتلئاً بالمروءة، ممتلئاً بالنبوة، ممتلئاً بالنسور
غبشا يتوسط بين انتهاء الحياة وبدء القيامة
وعليه علامة
إنه مفعم بالحضور أو يكون كصمت القبور".
ومن قصيدة لحميد سعيد تمزج بين حزن النساء على فلسطين وحزنهن التاريخي على الحسين يقول:
".. وفلسطين لم تزل في دمي
شغفا
النساء تحدثن عنها.. بكين.. وقلت:
لعل فلسطين واحدة من بنات الحسين
هكذا يتبدى التلاحم بين الحزن والغضب، بين الوجع والثورة، بين الفارس والراية وهي تخفق حيثما سيستقر مطاف السبا ويتداعى التقاعس عن انتهاك الحرمات في الانتظار لملك الثوار، نداء "لمظفر النواب"..
"ماذا يقدح في الغيب؟
أسيف عليّ
قتلتنا الردّة يا مولاي كما قتلتك بجرح في الغرة
هذا رأس الثورة
يُحمل في طبق في قصر يزيد
ويزيد على الشرفة يستعرض أعراض عراياكم ويوزعهن
لجيش الردة
ويصبح نداء الثورة مشتعلاً
ونداء لملك الثوار أن يظهر من جديد".
وإلى جانب هذه المعاني التي نعيشها الآن مدلول آخر عن غربة لا يتجاوزها إلا المجاهدون الأجلاّء، لأنهم أصحاب قضية جليلة وسط سلبية أمة جبنت وسكتت، يشير له الشاعر راضي مهدي السعيد:
وفي كربلاء الأمس كان الجرح والهزيمة
لأمة لم تحمل الراية حيث شبّت السيوف
واخترقت مفاوز الصحراء خيل تمتطيها أذرع لئيمة
ترهب فارساً أتاها يزرع الحتوف
في أعرق تشدها خطى محاريب
سنين شمسها رميمة"..
لقد كانت دعوات مبادئ الحسين أكثر مثالية ونبلاً من أن تتلاءم مع واقع يسري الفساد بأوصاله، فاستمرت تتوهج كلما نهض مثاليون في كل زمن..
وهذا "أدونيس" يقدم صورة لاستيعاب الحالة كلها، حيث أحدث استشهاد الحسين أثره في كل مظاهر الوجود في صياغة فنية تعبر عن موقف نضالي:
"حينما استقرت الرماح في جسم الحسين
وازينت بجسد الحسين
وداست الخيول كل نقطة في جسد الحسين
واستُلبت وقُسمت ملابس الحسين
رأيت كل حجر يحنو على الحسين
رأيت كل زهرة تنام عند كتف الحسين
رأيت كل نهر يسير في جنازة الحسين".
نجوى علي الموسوي
الانتقاد/ العدد1250ـ 18 كانون الثاني/ يناير 2008