ارشيف من : 2005-2008
عن محاكاة الفن التشكيلي للمشهد العاشورائي
في العام 61 للهجرة وفي مكان يدعى الطف، شهدت البشرية واحدة من أحداثها المفصلية لناحية المسار الإنساني الكوني، مع ما في الأمر من تكثيف للمواقف واحتشاد للعناوين. فحضر الحق إلى جانب الفداء والحب والعطاء والمروءة والخير والشجاعة والذوبان في العشق الإلهي. وكان أن مشى الزمن وغطت الرمال الرمال.. لكن هذه الصفحة لم تُطوَ كباقي الصفحات التي تعوّد التاريخ أن يكدسها في خزائنه.
لا ليس شعاراً صوتياً حين تهتف الحناجر: "كل يوم عاشوراء، كل أرض كربلاء"، فالجمر الذي أوقد عام 61 كان جمراً سرمدياً لا مكان فيه للرماد.
من خلال الشعر حفظت الواقعة وتناقلتها الأجيال، ثم كان المسرح وسطياً متأخراً، أما الرسم فدخل على المشهد بشيء من الخفر الذي يمكننا تعليله بندرة هذا الفن أساساً في التاريخ العربي والإسلامي.
التصوير الكلاسيكي
بقيت اللوحة المجسّدة لأحداث الطف في دائرة استلهام الواقعة كما رُويت بالمعنى المشهدي المباشر، فكانت جل اللوحات أشبه بالترجمة أو الرسم التوضيحي، كأن نرى مواضيع عن رحلة مسلم بن عقيل أو وصول أبي الفضل العباس إلى الماء من دون أن يشرب، أو السهم في جسد الرضيع، أو إحراق الخيام أو حزن السبايا، مع حضور رمزي مكثف لحصان الإمام (ع).
يعتبر تصوير هذه اللحظات الخالدة وغيرها عملاً شديد التأثير وكبير الوقع، وهو يرمم بعضاً مما قد يعجز العقل عن الإحاطة به، من معالجة للمكان ومكوناته واللباس وألوانه، وتشكيل الملامح وصياغة الأبعاد.. طبعاً نفذت اللوحات ضمن المدرسة الكلاسيكية، فكان الظل والنور والأبعاد.. كذلك ثمة مراعاة في عدم إظهار وجه الإمام الحسين (ع) والاكتفاء بإظهار النور في مكان الوجه، وهو ما روعي أيضاً في وجه السيدة زينب (ع) أو الإمام زين العابدين (ع).
الوجوه في الرسوم الشعبية
برغم كل ما ذكرنا، إلا أن رسوماً يمكننا تصنيفها بالشعبية (المراعية لبعض أصول الفن التشكيلي) خالفت السائد وقدمت الإمام الحسين (ع) بكامل ملامح وجهه، بشكل لا يسيء إلى مقام الإمام.. ذلك أن ملامح الوجه مزجت بين الجمال والهيبة.. علماً أن اللوحات ذاتها مع تعديل طفيف تقدم على أنها للإمام علي (ع) أو أبي الفضل العباس (ع).
عموماً ثمة صعوبات ذهنية أمام محاولة تخيل الملامح المجرّدة، وهو ربما التفسير الأقرب إلى المنطق في ما يتعلق برسم الوجوه هنا، وخاصة أن الشرع لم يغلق الباب في أحكامه.
حداثة التراث الفني
لا تزال إطلالات الفنون عموماً على الحدث العاشورائي خجولة، لذلك لا يمكننا البناء والتحليل على أسس فعلية، والانطلاق في عملية النقد والمقارنة من خلالها.
لكن ما يمكننا قوله هو أن لوحات كثيرة خطت بألوان إيرانية وعراقية، ثم بدرجة أقل لبنانية وكويتية وبحرانية، لكن الشبه بينها كبير والاجتهاد في أكثر الحالات تقني.
في لبنان مثلاً هناك أعمال عديدة لفنانين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، نذكر منهم الفنانين أحمد تيراني وأحمد عبد الله ويوسف صقر، حيث تتطور أعمالهم بشكل دائم، إن لناحية معالجة زوايا جديدة من الحدث، أو تقنياً لناحية التنويع في المواد المستخدمة.
قبلهم كان الفنان عبد الحميد بعلبكي قد اختار "عاشوراء" لتكون عنواناً لجدارية تخرُّجه، فرسم واقعة الطف وما تلاها من سبي وإباء في قالب متداخل، فالجدارية لا تحتمل التجزيء.
ارتكزت جدارية بعلبكي على ألوان ثلاثة هي: الأحمر والأسود والأصفر، أما عناصرها فكانت للسبايا ثم للشمر الذي عالج ملامح وجهه بأسلوب كاريكاتوري. وكذلك هناك حركة متداخلة للسيوف، مع حضور معبّر للنخلة التي تقدم الخضرة على مدار العام في الصحراء الجافة. أما الحصان فكان في لوحة بعلبكي في أشد عنفوانه وتمرده.
عن جدارية عاشوراء قالت الفنانة اللبنانية إيفيت أشقر إنها عناصر خطت بالحرف العربي، وقد طلبت لها وأعطتها مع باقي لجنة الحكم أعلى علامة عرفها معهد الفنون الجميلة في بيروت.
عاشوراء في الرسوم الموجهة للطفل
كثيرة هي القصص العاشورائية الموجهة للطفل، وكذلك هناك العديد من الأعمال التلفزيونية التي واكبت الحدث العاشورائي، وإن كانت مصاحبة برسوم ثابتة.
بين القصص المرسومة والبرامج التلفزيونية هناك كم لا يستهان به من الرسومات التي سعت إلى تبسيط مجريات الأحداث بشكل يتواءم وعقل الطفل.
فمثلاً هناك قصة "واحسيناه" للكاتب عباس العيد، والرسوم للفنان نبيل قدوح. تحتوي القصة على 154 مشهداً مرسوماً، وتحكي واقعة عاشوراء في أبرز مفاصلها، مع مراعاة اللغة السهلة والرسوم المرنة المتعددة الألوان.
أيضاً في نهاية قصة "واحسيناه" نقرأ تعريفاً لأبرز المواقع والمدن المذكورة في النص، ثم تعداد لأسماء أصحاب الإمام الذين استشهدوا معه في كربلاء.
هل من مكان للحداثة؟
مع كل ما ذكرناه عن العلاقة غير البعيدة بين الفنون وملحمة عاشوراء، هل يمكننا أن نسأل عن الاجتهادات التشكيلية في المعالجة؟ هل نستطيع أن نناقش دخول المدارس الحديثة على هذا العنوان العريض؟ وهل هناك من تشكيليين يستطيعون حمل مسؤولية ترجمة عاشوراء إلى لوحات حديثة، إنما محافظة على جلالة الحدث ووقارة؟ أيضاً هل يمكننا تخيل التعبير عن واقعة الطف من دون العروج على أي من اللونين الأحمر والأسود؟
لا شك في أن محاولات عدة أجابت عن بعض هذه الأسئلة، خاصة في الجمهورية الاسلامية الايرانية، لكن التخيل النمطي السائد لا يزال في الدائرة الكلاسيكية، أما المحاولات الحديثة فتحتاج إلى وقت طويل لتكرس نفسها وسيلة تعبير منافسة، خاصة إذا كان الحدث المتناول ذا أبعاد دينية وتاريخية.
عبد الحليم حمود
الانتقاد/ العدد1250ـ 18 كانون الثاني/ يناير 2008