ارشيف من : 2005-2008
المبادرة العربية في فصلها الثاني: احتمالات الإخفاق واردة ما لم تضمن للمعارضة المشاركة
قبل أقل من 24 ساعة على وصول الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى بيروت لتسويق خطة العمل العربية لحل الأزمة اللبنانية، كان ثمة من يحذر من أن تغرق هذه المبادرة في متاهات التفاصيل والتعقيدات اللبنانية، وبالتالي تضيع وتصبح رقماً إضافياً في لائحة المبادرات التي رمت لإيحاء مخرج لمأزقٍ كاد يصير عصياً.
لكنه سرعان ما تبين أن هذه المبادرة تحمل في طياتها وثناياها مظاهر وبذور صعوبة تطبيقها، لأن البند الثاني فيها المتصل بتأليف الحكومة، وتحديدا المرتبط بتفسير مبدأ عدم امتلاك المعارضة للثلث الضامن وعدم امتلاك فريق الموالاة للحصة التي تجعله مستأثراً، جاء غامضاً ومبهماً و"حمّال أوجه" وفق التعبير والمصطلح الذي استخدمه كل الأفرقاء في لبنان.
وهكذا ما بين إصرار موسى على عدم إعطاء تفسير محدد وجلي لجوهر هذا البند واكتفائه بالقول طوال المرحلة الأولى من جولته انه واضح ولا يحتاج إلى تفسير، وبين إصرار المعارضة على قول أحد أركانها لرئيس مجلس النواب نبيه بري أنه يعني ثلاث حصص متساوية بين المعارضة والموالاة ورئيس الجمهورية، وبين زعم الموالاة (14) للموالاة و (10) للمعارضة و (6) لرئيس الجمهورية، عاد الدبلوماسي المخضرم موسي خالي الوفاض إلى القاهرة واعداً بالعودة إلى العاصمة اللبنانية مجدداً لوصل ما انقطع واستئناف ما بدأه.
وبمجرد أن أدار الرجل ظهره وركب الطائرة كانت أبواق قوى الموالاة تتحدث عن امكانية أن يكون إخفاق الجامعة العربية هذه المرة في انضاج تسوية للأزمة اللبنانية توطئة لفصل آخر من فصول تدويلها، وبالطبع ساهم في هذا الأمر كلام يصب في هذا المنحى لوزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير إبان زيارته للسعودية مع رئيسه نيقولاي ساركوزي.
وتزامن ذلك كله مع حملة ضغط وتهويل عربية وداخلية فحواها أن على السوريين أن يقنعوا حلفاءهم في لبنان بتسهيل إمرار المبادرة العربية بنسختها الأولى ووفق تفسيرات الموالاة، فيما ذهب الرئيس المصري حسني مبارك إلى أبعد من ذلك عندما هدد بنفض العرب أيديهم من لبنان وقضيته إذا ما لاقت المبادرة العربية مصير سالفتها، المبادرة الفرنسية.
وبالطبع ارتفعت وتيرة هذا التهويل والضغط إلى ذروتها عشية عودة موسى إلى بيروت ليشرع في رحلة المرحلة الثانية من مهمته التي وعد بهاء، حتى أن البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير نظّر لإمكان حصول التدويل ما لم تأخذ المبادرة التي يحملها موسى باسم النظام الرسمي العربي.. وإلى جانب ذلك لم يكن أمام قوى 14 آذار إلا التمسك بهذه المبادرة واعتبار أنها قدر لا يرد وأنها إنما وضعت لتأخذ طريقها إلى التنفيذ. وكان جلياً من هذه الضجة الكبرى حول خطورة عدم الأخذ ببنود المبادرة العربية كما وردت في صيغتها الأولى، وتداعيات هذا الأمر انما يذكر بالضجة المفتعلة نفسها التي شهدتها الساحة اللبنانية عشية المهلة القصوى للاستحقاق الرئاسي، وبحملة التهويل التي برزت أيضاً غداة المبادرة الفرنسية التي تهافتت وتداعت لاحقاً، وفي أعقاب إعلان الموالاة قبولها بترشيح قائد الجيش العماد ميشال سليمان مرشح تسوية للرئاسة الأولى التي باتت شاغرة منذ 23 تشرين الثاني من العام المنصرم.
ولم يعد خافياً أن المعارضة أدرجت كل هذا الكلام وفيض التأويلات والتهديدات في خانة التهويل والضغط الذي تمارسه قوى الموالاة وحلفاؤها في الداخل وداعموها ورعاتها في الخارج، بغية الظهور بمظهر الراغب في ملء الفراغ الرئاسي وحل الأزمة التي تمتد وتتوالى فصولاً قبل ذلك بأشهر، والهدف دوماً واحد هو إجبار المعارضة على الرضوخ والانصياع لفكرة القبول بما تمنحه إياها الموالاة في الحكومة، ليكون لها (للموالاة) حرية القبض على زمام الحكم عبر حكومة تكون حصصاً وقراراً وبياناً وزارياً في يدها.
تلك هي باختصار الضالة الأولى التي وجدتها قوى الموالاة في المبادرة العربية هذه المرة ايضاً، وتبين لاحقاً أن الفريق عينه يحلم ويعمل على أساس أن يكون في صلب هذه المبادرة جسور للعبور إلى هذا الهدف الأساس، اضافة الى أهداف أخرى.
لا تكتم أوساط في المعارضة أن قوى الموالاة ومعها رعاتها الاقليميون بدأوا منذ أن عجز هذا الفريق عن تنفيذ سيل تهديداته بالاتيان برئيس يكون من رحمه السياسي أو من نسيجه الخالص إلى الرئاسة الأولى بنصاب النصف زائد واحد، ومنذ أن أيقن هؤلاء جميعاً أن الموالاة باتت أمام حقيقة مرة وهي التسليم بأن زمن استئثارها الغبي بمقاليد الحكم صار قاب قوسين أو أدنى من الانتهاء، اتبعوا سياسة يمكن أن تسمى سياسة "الحد من الخسائر" التي آن أوان ان يدفعها هذا الفريق، فعمل على الآتي:
ـ إرشاء المعارضة برئيس لا يمكن لها أن ترفضه، وهو العماد سليمان، على أن تتغاضى عن الحكومة المقبلة التي ستبادر هي (الموالاة) إلى تشكيلها ورسم حدود الحصص فيها.
ـ العمل عبر وسطاء مرئيين وغير مرئيين للذهاب إلى دمشق مباشرة بغية نسج تفاهم مباشر معها، علّ ذلك يكون مقدمة لكي تضغط معهم على المعارضة، فيقبلوا تحت وطأة الضغط بما تعده الموالاة وترسمه لمرحلة ما بعد ملء الرئاسة الأولى.
ولقد بات واضحاً أن قوى الموالاة نظرت إلى المبادرة العربية الأخيرة من هذا المنظار، لذا فهي عملت على الترويج لها أولاً على أساس أنها فرصة أخيرة سيكون من بعدها "الطوفان الآتي ولا ريب" وتشظي الأوضاع في البلاد، ثم زعمت أن هذه المبادرة هي من صنع (21) دولة عربية، ولا جدوى من عدم التجاوب معها! ولم تخف لاحقاً أن سوريا شريكة معها في الضغط لإمرارها على أساس أنها تشكل بالنسبة لها مخرجاً من القطيعة مع العرب، ومخلصاً لها من العزلة الدولية التي تعاني من آثارها. وأكثر من ذلك فإن بعض العرب مضى قدماً في دعم هذه النظرية عندما لوّح بأن عدم انضمام دمشق الى جوقة الضغط على المعارضة إنما سينعكس سلباً على القمة العربية الدورية المقرر أن تستضيفها دمشق في آذار المقبل.
وفي موازاة الغزل على هذا المنوال كان ثمة منوال آخر في الداخل ينسج عليه تهويل آخر هو تهويل التدويل، واقعاً وشيكاً ما لم ترضخ المعارضة لإملاءات هذه المبادرة أو لتفسيرات الموالاة لها.
والواضح أن كل هذه المناخات الضاغطة أرادها فريق الموالاة أن تنتشر وتُعمم قبل ساعات من عودة موسى إلى بيروت، وإذا كان هذا الفريق بات يعي أكثر من سواه أن المعارضة ليست في وارد أخذ كل هذه الحملة التهويلية على محمل الجد، وليست في وارد التراجع عن المطالب المحقة التي رفعت منذ زمن، وهي عدم قبول أي حياد أو عرض لا يضمن لها المشاركة الحقة والحقيقية في قرار البلاد، فإن الجلي أن الموالاة تستخدم المبادرة العربية لأمور أخرى مضمرة، أولها ملء الفراغ الحاصل في اللعبة السياسية بعد عجزها عن ملء الفراغ الرئاسي، لكي تحول دون أن تبدو هي في موضع العاجز عن الفعل، وكي لا تبدو المعارضة هي التي تمسك بزمام هذه اللعبة وتتحكم بها، ولكي لا تترك المجال للعماد ميشال عون لكي يثبت أنه هو الأقوى وفريق المعارضة على الساحة المسيحية، وهي التي جاهرت مراراً وتكراراً بأنها لن تفاوضه كممثل أوحد للمعارضة، لأنها لا تريد تكريسه زعيماً مسيحياً يدين بالولاء له ولطروحاته الشريحة الأكبر في هذا الشارع.
ويبقى السؤال المطروح بإلحاح: أيمكن للمبادرة العربية أن لا تنجح؟
امكان ان تلقى هذه المبادرة مصير سالفتها المبادرة الفرنسية احتمال وارد ما لم تعترف هذه المبادرة بحقائق الوضع اللبناني وتقر للمعارضة بحقها في التمثل بالحكومة المقبلة، على الأقل وفق التمثيل في مجلس النواب، وما لم تتخلَّ المبادرة عينها عن التذاكي عبر محاولة "إرشاء" المسيحيين من خلال القول انها ستعطي رئيس الجمهورية المقبل الحصة الراجحة في مجلس الوزراء، فالجميع يعلم أن ثمة محاولة مستمرة من قبل الموالاة لتحقيق الهدف الأكبر، وهو إضعاف العماد عون لكي يعجز في الانتخابات النيابية المقبلة عن الإتيان بحصة نيابية وازنة، فيسهل بالتالي على الموالاة أن تستفرد بباقي قوى المعارضة.
انها أضغاث أحلام يعيشها هذا الفريق ويحاول أن يجعلها حقيقة من خلال تفسيراته للمبادرة العربية التي لن يكتب لها النجاح اطلاقاً إذا لم تضمن حلاً وتسوية تعطي للمعارضة حقها في المشاركة بالحكم، حتى وإن ادعى بعض العرب أنها مبادرة الفرصة الأخيرة.. فثمة صعوبة كبرى في تصديق ان الطوفان سيحصل ما لم تنجح.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد1250ـ 18 كانون الثاني/ يناير 2008