ارشيف من : 2005-2008
ساركوزي في الخليج: سياسات ملتبسة ومطامع تجارية
ستة وزراء وعشرون من كبار الصناعيين الفرنسيين رافقوا الرئيس نيكولا ساركوزي في جولته الخليجية التي شملت كلا من السعودية وقطر والإمارات، وهي الجولة التي تأتي استكمالا لتحرك فرنسي باتجاه المنطقة شمل خلال الأشهر القليلة التي أعقبت وصوله إلى الإليزيه، ليبيا والجزائر والمغرب وتشاد ومصر.. إضافة إلى التصريحات والأنشطة الفرنسية المتعلقة بملفات المنطقة من فلسطين إلى إيران، مروراً بسوريا ولبنان والعراق، التي كلفت وزير الخارجية الفرنسية بيرنار كوشنير عدة زيارات إلى لبنان وزيارة إلى العراق.
الجانب السياسي مهم في التحرك الفرنسي الأخير، خصوصاً في زيارته الى السعودية التي تتمتع بثقل أساسي في مجريات الأمور في المنطقة، ولا يمكن لدولة مثل فرنسا إلا أن تعمل على توثيق العلاقات معها في ظروف سعيها المستجد لاستعادة حضورها الذي فقدته لمصلحة الحضور الأميركي الإسرائيلي، بعد أن كانت لاعباً أساسياً في الحرب العراقية على إيران وفي إدارة ملف الصراع العربي الإسرائيلي. من هنا كان من الطبيعي أن يركز ساركوزي في تصريحاته على أهمية السعودية "كحليف كبير لفرنسا، لأنها قطب للاعتدال والاستقرار"، أو "كحليف لا يمكن من دونه فعل أي شيء بسبب تأثيره في لبنان وإيران وعائداته النفطية"، أو بسبب "أهمية الاعتدال السعودي الذي يتجاوز المجال الإقليمي إلى المجال الدولي". وقد بلغ ساركوزي حداً من الحماسة في مجال إطراء السعوديين بسبب الموقع الديني للمملكة، جعل خطابه يرتدي مسحة بابوية عندما تكلم عن العمق الديني للحضارات وعن ضرورة التقارب بين الأديان التي دعاها إلى النضال ضد تراجع القيم الأخلاقية والروحية أمام إفراطات المادية، مشدداً على عدم كفاية الاستهلاك لتحقيق السعادة! وبالطبع وضع ساركوزي طروحاته هذه في إطار السعي الضروري لتجنب صراع الحضارات والحروب الدينية، متجاهلاً بذلك كل التحريض الحضاري وحتى الديني الذي تفوح به مواقفه الرافضة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، أو تلك التي يخير فيها إيران بين وقف برنامجها النووي أو التعرض للضرب، أو تلك التي يرهن فيها الانفتاح على سوريا بموقفها من انتخابات الرئاسة في لبنان، أو حتى عندما يعتبر أن ما يجري في السعودية هو "امتحان للعلاقة بين الإسلام والحداثة".
وإذا كان ساركوزي قد جانب طريق الإسهاب في إيضاح فكرته حول هذا الموضوع الذي خلط فيه السم بالدسم عندما أشاد بالتقدم المحرز لحرية التعبير وحقوق المرأة والتطورات التي تدعو إلى الإعجاب مع تنويهه ببطء التقدم في هذه المجالات، فإن وسائل الإعلام الفرنسية لم تتردد في الإفصاح، انطلاقاً من المبادئ التي لا يمكن من دونها لفرنسي أن يصبح رئيساً، عن الموقف الفرنسي الحقيقي عبر التشديد على الطبيعة المحافظة المتشددة للنظام السعودي، وعلى خلو مجلس الشورى السعودي المكون من 150 عضواً كلهم يعينون من قبل الملك، ولا يقومون بأي دور فعلي ولا وجود بينهم لأي امرأة. كما أثارت دعوة السعودية للرئيس الفرنسي إلى احترام القيم الإسلامية بعدم اصطحاب "صديقته" كارلا بروني في زيارته ـ بعد أن كان اصطحبها مؤخراً إلى مصر ـ أثارت عاصفة إعلامية حقيقية حفلت بأنواع التشهير والتحريض من خلال تركيزها على القوانين السعودية التي تحول بين أمور أخرى، دون حصول غير المتزوجين على غرف في الفنادق، حتى لو كانوا من الأجانب.
ونظراً لرغبة فرنسا في أن تكون صديقة السعودية وصديقة العالم العربي التي لا توزع الدروس بل تقول الحقيقة، على ما قاله ساركوزي، حرص هذا الأخير بعد إشادته بالدور السعودي في دفع البلدان المصدرة للنفط نحو الاعتدال، أي نحو اعتماد سياسات نفطية مناسبة لمصالح الدول الغنية، حرص على إبداء قلقه من الارتفاع الفظ في أسعار النفط! وفي هذا المجال جعل من نفسه مدافعاً عن الفقراء، لأن وصول سعر البرميل إلى مئة دولار يؤثر سلباً في النمو ليس فقط على مستوى فرنسا والاتحاد الأوروبي، بل أيضاً على مستوى البلدان الفقيرة. ومن هنا رأى ساركوزي أن السعر المناسب للبرميل يجب أن يظل في حدود سبعين دولاراً. وبالطبع لم يقل له أحد "سمعاً وطاعة!"، وربما كان ذلك سبباً في استطراده للحديث عن أحد الموضوعات الأثيرة التي تغذي المشاعر السلبية في الشارع الغربي تجاه العرب والمسلمين، أي عن موضوع ما يمتلكونه من ثروات نفطية ينبغي أن تكون "ملكية عالمية"، على ما تقوله إحدى النظريات الغربية المعروفة. فقد شدد ساركوزي على ضخامة الثروات والعائدات النفطية في بلدان الخليج، ولم يخفِ استغرابه إزاء شدة تطلب هذه البلدان للطاقة النووية برغم ضخامة تلك الثروات والعائدات. ومع ذلك فإن ساركوزي المحب للحقيقة، كما رأينا، لا يريد إلا أن يكون محباً للعدل أيضاً. فباسم العدل ركز ـ برغم ضخامة الثروات النفطية في الخليج ـ على أن يكون الاستخدام السلمي للطاقة النووية حقاً لجميع الشعوب. لم يعرج على الاستخدام غير السلمي من قبل بلدان مثل "إسرائيل"، وعلى العون الفرنسي الملموس لها في هذا المجال، لكنه جعل من مجرد الاشتباه بمسعى إيراني مستقبلي غير سلمي في المجال النووي مجالاً للتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور. وحرصاً على العدل النووي الذي يعود على فرنسا بأرباح مادية ضخمة، والذي وقعت باسمه مؤخراً اتفاقيات للتعاون النووي مع بلدان كليبيا والجزائر، عرض ساركوزي على السعودية تعاوناً مشابهاً، لكنه لم يحظَ برد فوري، خلافاً لما هي عليه الحال بالنسبة إلى دولة الإمارات التي قبلت بتوقيع اتفاق في هذا المجال. نجاح لا بأس به لساركوزي القادم إلى المنطقة كممثل تجاري، أضيفت إليه نجاحات أخرى، منها توقيع عقود لبيع معدات كهربائية إلى قطر بقيمة 500 مليون يورو. مبلغ زهيد بالنسبة الى الأربعين مليار دولار التي يأمل تحصيلها من السعودية في غضون الأسابيع والأشهر القادمة، إذا ما وُقّعت عقود في مجالات النووي السلمي والتسلح والأمن والبنى التحتية، حيث تنوي السعودية تنفيذ مشاريع تثير المطامح، على ما قاله ساركوزي. وبالانتظار، جرى التوصل إلى توقيع اتفاقيات ذات طابع علمي في مجال معالجات النفط والغاز والإعداد المهني والتعليم الجامعي، إضافة إلى اتفاق في مجال التشاور السياسي على مستوى وزيري خارجية البلدين.
أما في الجانب السياسي، وإذا ما وضعنا جانباً مطالبة ساركوزي بالضغط على إيران وسوريا، فإن تحركاته الدبلوماسية المكثفة في العالم العربي تشكل، بغض النظر عن مدى فاعليتها، مؤشراً أكيداً على وجود فراغ في المنطقة، دخلت فرنسا حلبة التنافس على ملئه، في ظل حالة التراجع التي تعاني منها السياسات الأميركية والإسرائيلية منذ الحروب الفاشلة على العراق وأفغاتستان ولبنان. ولكن هل يمكن لساركوزي بشعبيته الهابطة وديغوليته المتنكرة للديغولية وتجاوزاته الدستورية والتهم الموجهة إليه بالعمالة للموساد، ومراوغاته السياسية وقصصه النسائية، أن يعطي لفرنسا موقعاً تستحقه العلاقات العربية الفرنسية والإسلامية الفرنسية بعد كل ما أصابها من انكماش في ظل فرنسا ما بعد شارل ديغول؟
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1250ـ 18 كانون الثاني/ يناير 2008