ارشيف من : 2005-2008

بقلم الرصاص: السيرة الدائمة لحسام الغزاوي

بقلم الرصاص: السيرة الدائمة لحسام الغزاوي

كتب نصري الصايغ

يقول الرغيف لحسام: سأتغيب لأيام، ينظر حسام إلى قمر غزة، فلا يراه مستديراً. يتطلع إلى عيني أمه، فيرى دمعتين، تشبهان رغيفاً، فينام.
الدمع مائدة الطعام في غزة.
* * *
لا يستيقظ حسام من نومه، سافر في دمه بعد منتصف الليل: السقف انفتح كدائرة ولم يسقط منها خبز الصباح، الطائرة التي مزقت عتمة الثياب، أحرقت الصاج، وأتلفت حطب القلب، وذرت الأجساد كالرماد.
الدم وليمة الأطفال في غزة.
* * *
يسأل العرب عن حسام، يهتدون إلى شقيقه، سيف من ذهب، سيف من جبن، سيف من رمال، يأخذه السيد إلى بيته، يصنع منه قنبلة، تقتل حسام في منامه.
الرصاص وجبة الأطفال في غزة.
* * *
أراد حسام أن يعود، لم يجد طريقة إلى البيت.. كان هناك بيت ولم يكن، أراد أن يبحث عن خبز أم خبأتهما رغيفاً، فلم يهتد، كانت الكهرباء مقطوعة، الفيول العربي يتدفق ملء شهوة السيد الأبيض، جلس حسام ينتظر، فأقفلت السماء معابرها، لا ضوء يأتي من مكان، العرب سيّافو الشعاع وحرّاس الظلام.
العتمة سماء الأطفال في غزة.
* * *
يجول حسام الغزاوي في مقامات الأمهات، يوصدن صدورهن، يقفلن أثداءهن، يضعن أصابعهن في مرمى الغضب، ليس في أجسادهن غذاء، يتصحّرن ويتيبسن، يصرن أكفاناً  مضمومة، ينزل حسام من منامات النساء، يتسوّل أماً.
الأكفان أمهات الأطفال في غزة.
* * *


يتذكر حسام أنابوليس، بشوق عينيه إلى ما بعد البحر، ولا ينسى أنه صائم منذ ولادته، السلام قذيفة أخرى، وتكوّم في أضرحة، ينتظر الكلام، لعلّه يعوّل على الكبار، وبطاقات السفر، وأجندة السياسات، وكاميرات التلفزيون، أراد مرة أن يؤمن بالسلام، إلا أنه مات.
القذائف سلام الأطفال في غزة.
* * *
ثمة ما فعله حسام عندما كان طفلاً، قاس قامته، فوجدها فلسطينية، قاس قدميه، فحلم بالمعراج أرضاً إلى القدس، قاس صلواته، فوجدها تتسلق أمامه الجلجلة، قاس الهواء من حوله، فوجده من دخان. قال لأبيه: سماؤنا بخيلة، أرضنا من أسلاك شائكة، قال لأمه: هذا رحم البؤساء، لما كبر، آمن بالحجر ولم يبرأ.
الكفر بالظلم إيمان الأطفال في غزة.
* * *
تذكر أنه عربي، أشهر عروبته، قال الشهادات كلها، فلم يتعرف أحد اليه، كبّر بالوطن، اتشح بفلسطين، حجّ إليها في كل أحلامه، هو منها وليس فيها، صرخ بأعلى أصواته، نادى أهله في حدود الهند، نادى أهله في ثغور الصدى، استغاث من أجل لقمة ورغيف وضوء وكفن، فلم يسمعه الا الحجر. أهله من رغوةٍ، أهله من زبد رخو، أهله عَرَبَة أقلّت العروبة إلى كفنها.
العرب آخر الغرب في غزة.
* * *
تحسّس حسام روحه، تأكد أنه إنسان، له جسد خاص، يشبه أجساد البشر. لعينيه أفق، لشعره تسريحة خيّال، لعنقه قامة من سحر، ليديه امتداد عطوف واحتضان حميم، لقدميه أرض تتنفس عطر الإقامة، ولجبهته منصة للشمس.. وتأكد حسام أن لروحه اغراء الحرية، وفرح العائلة، وقداس الحنين، وحبّ الاستحالات، ورغباتٍ بعدد الناس.. فصاح: يا ناس، لا تتركوني أموت كل يوم، لم تتفوّه حقوق الإنسان بكلمة عزاء أو رجاء، لكن "حسام" لم ييأس، اكتشف طريقة أخرى للموت: واقفاً يموت، وعلى قدمين يعود.
الحياة مرت من هنا.. في غزة.
* * *
ثم إن "حسام" تسلق شجرة العائلة: أجداده من زيتون ونخيل، وآباؤه بعد رمل البحر، وشقيقاته أخوات الأرض، والأمهات من نسلٍ اغتسل بالحب، رأى أنه عربي جداً، من سمرة القصائد وشناشيل المعلقات وحناجر الشعراء، رأى أنه من قدسٍ وشام وعدن ومدنٍ بعدد شغاف القلب، نادى بأعلى صوته: افتحوا جدران مدنكم، غزة بحاجة إلى هواء.
لا هواء للاخوة في غزة.
* * *
ولم ييأس. امتشق قرارات الأمم، سال حبرها في دمه، خارطة الطريق على جثته، القرار 194 على غيابه، الهيئات الدولية تفرك أصابعها كأقلام التلوين، وللأحمر الغزاوي طعم التآمر، من القريب القريب، إلى الغريب الغريب، يقف وسط جثته، ينتصب داخل موته ويهتف: أيها العالم، لماذا لا تصغي إلَيّ؟
العالم الذي يرى، فقأ عينيه عن غزة.
* * *
ثم جلس ينتظر: غداً موعد القمة، قبلها قمة أخرى، وقبلها قمم لا عدّ لها، قال: لا ينبت من العوسج عنب، ولا من الشوك تين، فلأكفّ عن الانتظار، سحب يده من يده، وضع رأسه في مكان آمن، ومضى يردد مع الشاعر بحنجرة مثخنة:
خافوا على العار أن يمحى
فكان لهم على الرباط لدعم العار مؤتمر
فيا حادي العرب ميّل على غزة بعد فوات الأوان


من منكم مثلي، أنا حسام الغزاوي وقد أحاط بي أعدائي من الجهات العشر: لا سماء أو مدى، لا أفق أو صدى.
أنا حسام الغزاوي، والأعارب من حولي، والروم من حولي، والأسباط الإثنا عشر من فوقي، والأرض الكروية تدور بي وهي في مدار الموت، فمن يعيرني سيفاً يشبه اسمي، فأنا كفيل بأعدائي.
لغزة قلب من ذهب يحميها.
* * *


يمضي حسام، من زمن طاعن، إلى أزمنة جديدة، منتصب القامة يمشي، يفضح عجز البشر، يلعن جبن العرب، ويتوكأ على موته ويقاتل بجرحه.
غزة، فجر العالم.
لا شيء يشبهها.
* * *


يمضي حسام، ويقيم مقارنة، بين "الفيتو" المنبوذ في أوروبا، و"الفيتو" المحاصر في غزة، يعترف بفظاعة الأولى، ويعيش فظاعة الثانية.
انطلق أيها العالم الأخرس.
افقأ ضميرك بما تشاهده في غزة.
فلا رحمة غداً، من لعنة الأبرياء
* * *
ويروى أن "حسام"، ولد بالأمس، ولم يجد أمه، كانت قد مضت إلى كفنها ترضعه دمها.
الانتقاد/ العدد1251 ـ 25 كانون الثاني/ يناير 2008


2008-01-24