ارشيف من : 2005-2008
رياح موسكو تعصف حول جورجيا
بعد أوكرانيا وثورتها البرتقالية التي نجحت بشكل كاسح ووضعت جميع بيوضها في سلة الغرب لتجد نفسها بعد عامين أمام انقسام حاد ومتعادل بين فريق الغرب وفريق التقارب مع روسيا، جاءت جورجيا بثورتها الوردية التي تبين سريعاً أنها أكثر أشواكاً من المتوقع. فقد دخلت جورجيا بدورها في دائرة تجاذبات أكثر حدة لجهة تصاعد التوتر في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وتردي العلاقات مع روسيا، إضافة إلى أزمات داخلية نجمت عن تفاقم مشكلات الفساد والفقر في ظل حكم ساكاشفيلي الذي يقدم مثالا يُحتذى في قيادته لتجربة ديمقراطية وتنموية غير مسبوقة في العالم السوفياتي السابق، وهي التجربة التي عول عليها الجورجيون كجسر للعبور السريع إلى جنة الرأسمالية. لكن جورجيا لم تنقسم في ظل ما تسميه المعارضة بـ"حكومة ساكاشفيلي الفاسدة" بين فريقين أحدهما مؤيد للغرب وآخر لروسيا، بل ـ وهنا المفارقة الدالة على العمق النوعي للأزمة ـ بين فريقين كلاهما مؤيد للغرب. وقد بلغ التوتر حداً نزلت معه الجماهير إلى الشوارع في تظاهرات طالبت في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بتنحية ساكاشفيلي عن الحكم وبإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. وقد ردت الحكومة بأعمال قمع واسعة النطاق أعلنت خلالها حالة الطوارئ، قبل أن يتمكن المبعوثون الغربيون، وفي طليعتهم الأميركي ماتيو بريزا، من إقرار صيغة توافق بين الحكومة والمعارضة. وبموجب هذه الصيغة جرى التوافق على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في الخامس من كانون الثاني/ يناير الجاري.
وقد جرت الانتخابات في الموعد المحدد، لكنها أسفرت عن فوز ساكاشفيلي من الدورة الأولى، حيث نال 53 في المئة من الأصوات مقابل 25 في المئة لمنافسه ليفان غاشيشيلادزة، وهي النتيجة التي اعتبرت شرعية وصحيحة من قبل الولايات المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. لكن المعارضة تحدثت عن تزوير الانتخابات ونزلت إلى الشارع في مظاهرات حاشدة يفترض أنها لن تتوقف، برغم الانخفاض الشديد في درجات الحرارة، قبل إعادة الانتخابات من جديد، وسط تعاظم الاستياء من الولايات المتحدة المتهمة بنصرة الدكتاتورية، ومن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي المتهمة بدعم انتخابات مزورة. ولم يحفل ساكاشفيلي بالمظاهرات وبمطالب المعارضة، بل سارع إلى تنصيب نفسه رئيساً في وقت يُخشى فيه من تجدد أعمال العنف. وكان المبعوث الأميركي ماتيو بريزا قد دعا الطرفين عشية الانتخابات الرئاسية، إلى التعاون من أجل الديمقراطية، لكنه تجاهل المشكلة الراهنة عندما أعرب عن أمله في أن تكون الانتخابات التشريعية المقررة في الربيع القادم حرّة وعادلة، الأمر الذي دلّ على رغبة واشنطن في أن يتجرع المعارضون غيظهم وأن يتحملوا إعادة ترئيس ساكاشفيلي بغض النظر عن سلامة العملية الانتخابية أو عدم سلامتها، على أمل أن يحققوا نجاحاً في المستقبل.
وبالطبع لا يمكن التنبؤ بما ستصير إليه الأمور في الأيام والأسابيع القادمة، لكن المتحقق منذ الآن هو أن المعارضة بين خيارين: إما الالتزام بمواصلة التظاهر حتى إعادة الانتخابات، مع ما يحمله ذلك من إمكانية العودة مجدداً إلى العنف وحالة الطوارئ، وإما أن تتراجع لتبدأ التحضير لانتخابات تشريعية تنفتح بدورها على توترات واضطرابات مشابهة. وفي الحالتين يكشف تراجع شعبية ساكاشفيلي وانضمام العديد من أركان حكمه من أمثال الملياردير بادري باتاراكتسيشفيلي ووزيرة خارجيته السابقة سالومي زورابيشفيلي، إلى صفوف المعارضة، عن أن فترة رئاسته الثانية لن تكون تجربة مريحة، في ظل المشكلات الاجتماعية والسياسية والانفصالية المتفاقمة داخليا، وفي ظل التوتر الدائم مع الجار الروسي الذي لا ينظر بعين الرضا إلى سياسات ساكاشفيلي وسعيه الحثيث للالتحاق بالحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي. ومن الأكيد أن أي خطوة قد يقدم عليها الغرب باتجاه دفع كوسوفو نحو الانفصال عن صربيا ستفتح في جورجيا أكثر من ملف انفصالي، إضافة إلى أن الاستياء المستجد داخل جورجيا من الدعم الغربي لساكاشفيلي، وعودة روسيا المستجدة إلى لملمة أشلاء فضائها الإقليمي، من شأنهما أن يوفرا مناخاً ملائماً لهبوب رياح موسكو مجدداً على تبليسي.
ع.ح.
الانتقاد/ العدد1251 ـ 25/1/2008