ارشيف من : 2005-2008
التهديد الروسي بالنووي: تهويل أم حرب باردة فعلية؟
في أواخر الثمانينيات كان الانهيار الكبير للمعسكر الاشتراكي وتحول الاتحاد السوفياتي عن موقع المنافس المرهوب الجانب لأميركا في معادلة القطبية الثنائية، إلى موقع روسيا التي هبطت سريعاً إلى مصاف بلدان العالم الرابع، حيث خضعت آلتها الحربية ومرافقها الاقتصادية إلى عمليات تخريب منهجي قادها في ظل بوريس يلتسين، حيتان المال والأعمال الروس المتواطئون مع الغرب، والذين هرّبوا خلال عشر سنوات ما يزيد على 500 مليار دولار من أموال الشعب الروسي إلى المصارف الغربية، في وقت كانت فيه كل سياسات روسيا مرتهنة للمساعدات والاستثمارات الخارجية. وفي ظل هذه الظروف التي سمحت للحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي باكتساح جميع بلدان حلف "وارصو" والمنظومة السوفياتية وصولاً إلى القفقاس وآسيا الوسطى، إضافة إلى البلقان وأوروبا الشرقية، لم يكن بإمكان أي مراقب أن يتصور لروسيا مصيراً غير العودة ـ بشكل نهائي ـ إلى غياهب عصور ما قبل بطرس الأكبر.
لكن مفاجأة حقيقية حصلت في شباط/ فبراير 2007 عندما وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر الأمن الدولي المنعقد في ميونيخ، ليطلق على السياسة الخارجية الأميركية صفة "الامبريالية"، ونعوتا أخرى في خطاب لم يعتد العالم على سماع مثيل له منذ أيام بولغانين وخروتشوف التي سبقت فترة التعايش السلمي والوفاق الدولي في بداية السبعينيات، والتي فتحت دخول الاتحاد السوفياتي في طور التعفن المفتوح على الانهيار. وفي الوقت الذي عاد فيه الكثيرون إلى الحديث عن حرب باردة جديدة، كانت الدوائر الغربية تتظاهر بعدم الاكثراث بهذا التطور، في محاولة لإشاعة الانطباع بأنه مجرد كلام لا طائل تحته.. لكن بوتين عاد وكرر الكلام في سياق التوتر المتصاعد حول الدرع الصاروخية الأميركية في بولونيا وتشيكيا، عن أن ما يجري مشابه لما حدث في أوائل الستينيات عندما نشبت أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا التي وضعت العالم على شفير حرب نووية. ثم خطا الروس خطوات إضافية مع سلسلة من الإجراءات اشتملت على تجريب صواريخ جديدة عابرة للقارات، وإعادة الطائرات والأساطيل الاستراتيجية الروسية إلى الانتشار في المياه والأجواء الدولية، ووقف العمل بمعاهدة الحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا، والتحضير لإجراء مناورات بحرية في المتوسط، سبقتها تهديدات بتصويب الصواريخ إلى العواصم الغربية، وصولاً إلى التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الجنرال يوري بالويفسكي قائد أركان الجيش الروسي، وأكد فيها أن موسكو جاهزة لاستخدام القوة بما فيها الضربات الوقائية والأسلحة النووية، لحماية سيادة روسيا ووحدة أراضيها وحلفائها في حال عدم فاعلية الوسائل الأخرى.
وقد جاءت هذه التصريحات متزامنة مع تصريحات مشابهة أطلقها الميجور جنرال فلاديمير زاريتسكي قائد قوات المدفعية والصواريخ الروسية وهدد فيها بنشر أحدث منظومة صواريخ متوسطة المدى في بيلوروسيا رداً على الدرع الأميركية.. وكل ذلك بعد يومين فقط من تعيين ديمتري روجوزين المعروف بتشدده سفيراً لروسيا لدى الحلف الأطلسي. وهنا أيضاً اعتبرت الدوائر الغربية أن هذه التصريحات والإجراءات لا تشكل تغييراً حقيقياً، وأنها مجرد جولة في العلاقات المتوترة مع الغرب، على أساس أن العقيدة العسكرية الروسية التي وقعها بوتين عام 2000 تعطي روسيا الحق في الاستخدام الدفاعي للأسلحة النووية.
قعقعة بلا طحين وعاصفة في فنجان.. هذا ما يحاول الغرب الأميركي والأوروبي بوجه خاص، بسبب القرب الجغرافي، أن يقنع به نفسه، في وقت تهوله فيه فكرة عودة الخصم الروسي ونوازعه الثأرية إلى مسرح الحدث الدولي، خصوصاً أن هذه العودة تأتي في عز مأزق التخبط الغربي في "الشرق الأوسط" أمام الملف النووي الإيراني والصمود السوري اللبناني وتطورات العراق وأفغانستان وتركيا وباكستان، وتحديداً أمام الحقيقة المخيفة التي حملها فشل العدوان الأميركي ـ الإسرائيلي على لبنان في صيف العام 2006. إلا أن المعطيات السياسية العملية تذهب في اتجاه مغاير تماماً تشهد عليه مواقف روسيا في مجلس الأمن من الملف الإيراني، ومقررات مؤتمر البلدان المشاطئة لبحر قزوين، وتطوير التعاون العسكري والاقتصادي في إطار منظومة شنغهاي، وتصعيد حرب الغاز مع أوروبا عبر أوكرانيا، والدعوة الروسية ـ الإيرانية الى تشكيل "كارتل" للغاز على غرار "أوبك".
وفي جانب آخر هنالك تصاعد التوتر مع بريطانيا حول مسألة الجواسيس وإقفال المركز الثقافي البريطاني في عدد من المدن الروسية، وهنالك مفاوضات الشراكة التي توقفت مع أوروبا، وهي المفاوضات التي ستستأنف قريباً بعد حلحلة أزمة العلاقات البولونية ـ الروسية والتي يسعى الأوروبيون جهدهم لإنجاحها خوفاً من انقطاع إمدادات الغاز الروسي. وهنالك ارتفاع الأصوات في العديد من البلدان الأوروبية ضد مشروع الدرع الصاروخية الأميركية. ومع زيارة بوتين الأخيرة إلى بلغاريا، العضو في الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، التي وُقعت فيها عقود بأكثر من 15 مليار يورو في مجال الطاقة الذرية السلمية والغاز، هنالك إضافة إلى همود ثورتي البرتقال والورود في جورجيا وأوكرانيا، نوع من الهجوم المعاكس الروسي باتجاه البلقان. هذا الهجوم يأخذ مداه مع أزمة كوسوفو، فالمعروف ان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد شجعا الكوسفار على إعلان الاستقلال عن صربيا من جانب واحد، وحاولا استخدام مجلس الأمن لاستصدار قرار دولي بهذا الشأن. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل في ظل التهديد الروسي باستخدام حق الفيتو، وفي ظل التأييد الروسي للموقف الصربي. وعندما يتحدث الجنرال يوري بالويفسكي عن حماية مصالح روسيا وحلفائها، فإن المقصود تحديداً هو الحليف الصربي، ما يعني أن إعلان استقلال كوسوفو لن يمر بالشكل الذي مرت به استقلالات بلدان الاتحاد اليوغوسلافي السابق، يوم كانت روسيا يلتسين أسيرة أوضاعها المتدهورة على جميع الصعد. والأكيد أن إدراك الأوروبيين لجدية الموقف الروسي هو وراء الاجتماع المغلق الذي عقده وزراء خارجية مجموعة الاتصال الخاصة بكوسوفو السبت الماضي(19/1/2008) في سلوفينيا. فالحقيقة أن مشكلة كوسوفو قد دفعت بعض بلدان الاتحاد، ومنها اليونان وقبرص، إلى الخروج عن الإجماع الأوروبي، خوفاً من تفجر مطالب استقلالية كامنة وظاهرة تعاني منها جميع البلدان الأوروبية. وهنا اتجهت الأنظار نحو الانتخابات الرئاسية في صربيا وسط تحشيد إعلامي غربي محموم لمصلحة الرئيس المنتهية ولايته بوريس تاديتش، "المعتدل" والمؤيد للغرب، والساعي لانضمام صربيا إلى الاتحاد الأوروبي، مقابل خصمه توميسلاف نيكوليتش، "المتشدد" والمعادي لفكرة الانضمام، والمنادي بالتقارب مع روسيا.
وفي إطار الحملات الإعلامية الغربية جرى التركيز على علاقة نيكوليتش بسلوبودان ميلوسوفيتش، وعلى كون رئيس حزبه الراديكالي فوجيسلاف سيسلي يخضع للملاحقة من قبل محكمة الجزاء الدولية في لاهاي بتهمة ارتكاب جرائم حرب، للوصول إلى نتيجة مفادها أن صربيا ستتعرض لعزلة دولية فيما لو أسفرت الانتخابات عن فوز نيكوليتش. ولدعم موقف تاديتش ومحاولة ثني صربيا عن موقفها الرافض لاستقلال كوسوفو، لوّحت سلوفينيا التي ترأس الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي، بجزرة الانضمام "الاستباقي" لصربيا إلى الاتحاد، لكن هذا الطرح أحدث شروخاً بين بلدان الاتحاد ولم يحل دون هزيمة تاديتش وفوز نيكوليتش في الدورة الأولى. وبانتظار الدورة الثانية التي لن تغير شيئاً في مسار أزمة كوسوفو، لأن الطرفين معاديان لفكرة انفصالها عن صربيا، تنفتح الآفاق على مواجهة روسية ـ غربية قد تخلط جميع الأوراق التي جرى ترتيبها خلال العقدين الماضيين في البلقان وسائر بلدان الفلك السوفياتي السابق. وإذا ما تساءلنا عن السبب في هذا النهوض الروسي، فإننا سنجد في طليعة الأسباب هيبة أميركا وحلفائها التي سقطت في "الشرق الأوسط"، وخصوصاً في لبنان، في وقت كان فيه الجميع يهرولون للالتحاق بعجلة الامبراطورية الأميركية ونهاية التاريخ.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1251 ـ 25/1/2008