ارشيف من : 2005-2008
حتى الأطفال يستفيدون من عاشوراء...
مع حلول محرم الحرام، ومعه ذكرى عاشوراء، ينخرط جميع افراد الاسرة بمن فيهم الاطفال في جو من الطقوس المعبرة عن الحزن على مصاب ابي عبد الله الحسين .. بدءاً من ارتداء السواد ... وصولا الى المشاركة الكثيفة في مجالس التعزية التي تقام في كل مكان.. فهل من المنطقي اشراك الاطفال في الطقوس العاشورائية بكل ما يجللها من طابع مأساوي حزين؟ وهل من فائدة تربوية تعود على الطفل من ذلك؟! ما هي طبيعة تلك الفائدة؟ وكيف يمكن توظيفها في حياة الطفل؟
اعتاد الاباء والامهات اصطحاب اطفالهم لحضور مراسم عاشوراء، اما لضرورات عملية او رغبة منهم في تقوية علاقة اولادهم العاطفية بأهل البيت (ع) وبالحسين الشهيد بشكل خاص، او لاجتماع السببين معا .. الامر الذي يفتح امام الاطفال أفقا واسعا لتغذية وجدانهم وذاكرتهم بما يثري ذاك الوجدان ويغذيه ليس بالصور التي لا تغادر الذاكرة عادة، بل بالدروس والعبر المستفادة من واقعة الطف وكل ما جرى فيها من أحداث .. صحيح ان واقعة الطف واقعة تاريخية حافلة بالتعقيدات التي العصية على ادراك الطفل، الا ان الطقسوية التي جرت العادة على احياء الذكرى من خلالها، تشكل مناخًا جذاباً للطفل، الامر الذي يحثه على توليد الاسئلة وعلى فتح باب الحوار مع الراشدين حول تلك الواقعة التاريخية بكل ما رفعته من شعارات، وما حفلت به من احداث، وغالبا ما يتحمس الاهل ـ خلافا لحالهم ازاء اسئلة الطفل الفضولية في مرافق الحياة الاخرى ـ لايجاد اجابات مقنعة عن الاسئلة المتناسلة من مخيلة الطفل وهواجسه حول الواقعة، تقديراً منهم لاهتمام الطفل بها ورغبة منهم في تعزيز صلته العاطفية والفكرية بمبادئها.
غنى مواقف ودلالات
صحيح ان واقعة الطف التي تدور حولها احتفالية عاشوراء، شغلت مساحة محددة من الزمن وامتدت على رقعة محدودة من الارض، لكنها كانت غنية بالمواقف والدروس والعبر حتى كأنها عينة من المجتمع الكبير ليس في مآسيه فقط (ظلم، ثكل، يتم..) بل في طبيعة الصلات الانسانية (اخوة، ابوة، امومة، قيادة ..) التي ظهرت على ساحتها.. لتشكل مسحاً شاملاً لكافة الادوار الانسانية، التي يتفاعل الطفل معها عادة، ويتعلم منها ايضا، فمن تلك الادوار التي حبكت الاحداث، يمكن ان يدرك اهمية انتمائه الى اسرة ويفهم طبيعة ذلك الموقع واهمية الدور الذي يفترض ان يلعبه كنصير وسند، ليس لاخوته فقط بل لوالديه واخوته .. هذا عدا عن الجمع الكبير من الابطال العظماء الذين ظهروا خلال المعركة، والذين يشكلون مشاريع امثلة عليا للطفل، يحتاج الى توافرها في عالمه، وخاصة ان في مواقف هذه الشخصيات بطولة تجتذب الطفل الذي يتحمس بطبيعته للبطولة والمغامرة، ويندمج مع المواقف الوجدانية التي ترافق رواية مواقفها في السيرة الحسينية عادة، وهو تمثل واندماج يوجه الطفل نحو تغليب المبدأ في حياته دائما.
تعزيز انتماء
عاشوراء مناسبة يتم احياؤها بشكل جماعي وفي نفس هذا الاحياء فضلا عن مضمونه وشكله الكثير من الايحاءات المعبرة والمؤثرة في وجدان الطفل، حيث انه يستوحي اهمية الوقوف الجماعي في مواجهة الخطر الذي يشكله الظلم والانحياز نحو الباطل على الجماعة. كما يتحسس في مراسم الاحياء الجماعي، بشكل واع او لا واع، القوة التي يشكلها تماسك اعضاء جماعة الولاء لنهج الحسين وفكره، ما يعزز رغبته في الانتماء الى هذه الجماعة بكل ما تمثل بالنسبة له من تماسك وقوة، ولان المحرض الأساسي لهذه الرغبة في الانتماء الى الجماعة، هو معايشة الطفل لتجربة الامام الحسين (ع) في مواجهة الباطل، فإن هذه الرغبة في الانتماء الديني الاسلامي تحديداً تساعده على تمثل صورته كمسلم، له موقف خاص من الحياة، وفلسفة خاصة تتركز على هدف اساسي هو نيل رضى الله ولو على حساب الحياة..
وبالرغم من ان الطفل لا يعي ابعاد هذه الفلسفة الا انه يدركها ويستعد لادراكها على مستوى شعوره على الاقل.
واقعية ثقة وتحدّ
من المؤكد ان غنى عاشوراء بالشخصيات والاحداث، ينعكس عموماً غنى في التأثيرات الايجابية التي يمكن ان تتركها على وعي الطفل للحياة وعلى تشكيل شخصيته على ايقاع القيم التي اعلت الذكرى لواءها... بدءاً بتدعيم شعور الثقة بالنفس لديه، مروراً بتنمية حس التحدي فيه، فضلا عن النظرة الواقعية للحياة التي تقدمها للطفل معايشته لعاشوراء بكل ما فيها من آلام، الامر الذي يفتح نظر الطفل باكراً على حقيقة ان الحياة ليست بهجة مستمرة، كما يعطيه صورة واقعية عمّا يمكن ان يلقاه كإنسان وكمسلم في مواجهة الحياة، وهذا ما يمهد لتقبل آلامها ومواجهتها.
اما البكاء على الامام الحسين (ع) وعلى اصحابه فيشعل في الطفل الحقد على الظلم والظالمين ويشكل أرضية خصبة لمشروع مقاوم للظلم الجاثم في كل مكان.
هذا فضلا عن ان عاشوراء الزاخرة بالمواقف والاحداث تشكل خزاناً رافداً لخيال الطفل بينما تشكل مظاهر الاحياء المختلفة والمتفرعة مثيرات حسية من شأنها تقوية طاقات الطفل العقلية.
تدعيم الفوائد
اخيرا لا بد من الاشارة الى ان استفادة الطفل من كل هذا المدد الكربلائي، أمر مرهون بوعي الاهل وبحسن استثمارهم للمناسبة في الاتجاه الصحيح.. ذلك انه على الاهل ان يجعلوا من مشاركة ابنائهم في احياء الذكرى، مشاركة تتناسب مع سن الطفل وامكانياته العقلية وطاقته الانفعالية، بحيث تزيد مساحة هذه المشاركة وفعاليتها كلما زاد سن الطفل وكبرت طاقته على الفهم وعلى التفاعل عاطفيا مع المناسبة. ويوازي هذا الاشراك التدريجي في الاحياء شرح تبسيطي لموقف الامام الحسين (ع) واصحابه واهله، وتبيان الوجه الايجابي والمشرق لواقعة كربلاء، كي لا يرى الطفل الحق مهزوما والحياة ظلماً وشراً ومآسي مستمرة، وبحيث لا تضيع فوائد الذكرى في مناخ التشاؤم والسوداوية التي تظلل المناسبة شكلا وتنادي في جوهرها الى مقاومة كل كل اشكال السواد.
منى بليبل
الانتقاد/ العدد1251 ـ 25/1/2008