ارشيف من : 2005-2008
تحديد القتلة ومحاكمتهم: للعدالة.. ولأمور أخرى أيضاً
كتب مصطفى الحاج علي
لم يكن أحد يتوقع أن يتحول يوم الأحد الفائت إلى يوم دامٍ وداكنٍ في مأساويته، سبعة شهداء، وعشرات الجرحى من المدنيين، وكلهم في مقتبل العمر وريعان الشباب، سرعان ما لبس ربيعهم لونه الأرجواني، وامتطى راحلة الموت، برصاص أقل ما يقال فيه إنه رصاص غادر، مجرم، مغموس بسم الفتنة، وتدابير خفافيش الظلام، وكهوف التآمر، المعروفة العنوان والجهة.
مشهد بات مألوفاً مؤخراً، مجموعة من الشباب يجمعون ألمهم المعيشي، وحنقهم الاقتصادي، وتذمرهم من مستقبلٍ يرونه لا يأتي، يجمعون كل هذا في مظهرٍ احتجاجي، يختارون له تعابير سوداء، عدمية، تشبه أوضاعهم، ولها رائحة جراحهم النازفة من عمرهم الذي يفترض أن يكون وردياً، يتجمعون في رقصة نارٍ، يرشقون المسؤولين بعبارات التنكير، ثم سرعان ما يمضون إلى أوقاتهم الأخرى، وكأن شيئاً لم يحدث.
هؤلاء الشباب تعودوا أن يتحركوا بصحبة الأجهزة الأمنية خصوصاً الجيش اللبناني، تعودوا أن يواكبوهم كأخوة، يحرسون تحركهم، يحمونه من أي مسار غير محسوب، أو طارئ، غير متوقع، وخصوصاً أن الظرف السياسي هش، والانقسامات حادة، وتلبس ألواناً مختلفة، وانفلات الأجهزة اللبنانية الغريبة والمتوثبة أكثر من أن يعد ويحصى، وتباين الهواجس واختلاف الحسابات، يكاد لا يجمعهم جامع.
لكن، هذا ما زاد من التباسية مشهد الأحد الدامي ودراماتيكيته، في انقلاب علاقة الصحبة والحماية، وفجأة ومن دون سابق إنذار، إلى علاقة عداء، ومن طرف واحد، محولة معها تظاهرة سلمية شعبية، إلى مناسبة لأن تكون حقلاً وحفلاً للقتل العشوائي، وبدمٍ بارد.
ما حدث ليس بالأمر العابر، ولا بالأمر الذي يمكن القفز عنه بسهولة، لأن ما جرى في زمانيته، وفي مشهده العام وفي ما واكبه وأعقبه من ردود فعل، حمل معاني ودلالات لا يطوي بعضها من ذاكرة القراءة والتحليل، إلا تحقيق صادق وشفاف ومنتج وسريع أيضاً.
إن قراءة ما جرى بدقة تحتاج إلى موضعته في إطاره الدقيق، والمتعدد والمتداخل الدوائر:
ـ جغرافياً، جرى حفل القتل في نفس المنطقة التي شهدت ولادة تفاهم حزب الله ـ التيار الوطني الحر، هذا التفاهم الذي أقام جسراً للعبور والتواصل والاتصال الانساني والسياسي والثقافي والجغرافي بين قوتين ثقيلتي الحضور مسيحياً واسلامياً، ومنذ امضاء هذا التفاهم، شنت عليه حروب قاسية بغية اجهاضه، الموالاة لم تبخل بشيء، الأميركيون بذلوا كل ما لديهم، الاسرائيليون أيضاً دخلوا على الخط، كل ذلك من أجل فك عرى هذا التفاهم، ودفع التيار الوطني الحر للقيام بإعادة تموضع جديدة، أو على الأقل تحييده، في سبيل افساح الطريق أمام اكتمال حركة المؤامرة الاميركية على لبنان، لكنها كلها فشلت.
نقول، لأن في تفاصيل بعض ما جرى محاولة لانتاج خط صدام مسيحي ـ اسلامي، وتحديداً ماروني ـ شيعي، ليسقط من خلاله التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني، وفي أدنى الاحتمالات احراج عون مسيحياً، لاضعافه، ويكفي هنا أن نتأمل في تعاطي محطات تلفزة محسوبة على أطراف في الموالاة، والتي حرصت على اطلاق شائعات عن هجمات تعرضت لها مناطق عين الرمانة، وعن وجود انتشار لجماعة القوات اللبنانية وسواها، هذا مع العلم أن شيئاً من هذا لم يحدث.
ـ أداة الفتنة، لم يرد لها هذه المرة أن تكون ميليشياوية محسوبة على هذا الطرف من الموالاة أو ذاك، كما جرى في المنطقة الشرقية، وفي الجامعة العربية، بل أريد لها أن تكون أيادي تنتمي إلى مؤسسة الجيش تحديداً، لماذا؟
أولاً: بات في علم الجميع أن هناك محاولات اميركية حثيثة لإحداث تبديل في وجهة العداء، فهل يكون العدو هو الكيان الاسرائيلي، أم يكون العدو مثلاً سوريا، المقاومة، الارهاب.. الخ، وهذا بدوره يستلزم إعادة نظر في هيكلية الجيش، وبناه الوظائفية، وتشكيلاته المتنوعة الخ..
وكل هذا لا يمكن أن يتم بمعزل عن الإمساك بكل مكوّنات السلطة في لبنان، كما يعمل الاميركي كرمى لعين فريقه، أي فريق الموالاة.
ثانياً: من المعروف، أن علاقة وثيقة نمت وترعرعت بين مؤسسة الجيش وقيادته والمقاومة، وهي علاقة سمحت بتأسيس قواعد مهمة لتكامل الأدوار في مواجهة العدو الواحد، أي الكيان الإسرائيلي.
ثالثاً: من المعروف أيضاً، أن قائد الجيش هو مرشح المعارضة قبل أن يكون مرشح الموالاة، وأن الموالاة لم تقبل به مرشحاً إلا على مضض، ولحسابات ضيقة وخاصة، واضحة للجميع.
رابعاً: لا يخفى على أحد أن داخل فريق الموالاة من ما زال على عقيدته التقسيمية، سواء بمسمياتها الحادة، أو الديبلوماسية، أي الفيدرالية وسواها، وأن بين هذا الفريق من لا يرى له دوراً إلا في الرقص على حافة الصراعات الداخلية، والحروب الأهلية، عسى يتيح له القيام بإعادة تموضع وهروب من مآزقه التي يختنق في داخلها.
نقول كل هذا، لكي نسجل الاستنتاجات الرئيسية التالية:
أولاً: إن من أطلق النار من الجيش على المدنيين، انما كان يطلق النار، وبنفس اليد المتآمرة على الجيش نفسه، لأن المخطِّط يعلم أن هذا الفعل لا بد أن ترتد تداعياته داخل الجيش نفسه.
ثانياً: إن من وضع الجيش في هذا الموضع مستعجل على إحداث تغيير في عقيدته وتالياً في وظيفته، فهو يعمل على فرض تغيير عملاني وموضوعي، لأن الهدف كان إحداث فتنة وخط صدام بين الحاضنة الجماهيرية للمقاومة والجيش، ما يعني ضمناً وضع المقاومة والجيش وجهاً لوجه.
ثالثاً: من ينظر في ردود فعل فريق الموالاة لا سيما جنبلاط ـ جعجع والحريري، يلحظ بوضوح أن هذا الفريق يريد تحويل الجيش من مؤسسة وطنية الى مؤسسة فريق، تماماً كما هو حاصل مع بعض الأجهزة الأمنية، الأمر الذي سيعني عملياً، وضع الجيش في مقابل المعارضة، ونقل الجيش من الموقع والدور الوطني العام، الى الموقع والدور الفئوي الخاص، ولخدمة المشروع الذي يخدمه هذا الفريق.
وهذا الأمر، جرى التمهيد له مسبقاً، حيث منذ مدة وفريق السلطة يسعى بالفتنة بين قائد الجيش والمعارضة، مستغلاً حرص المعارضة على توفير مستلزمات حكم ناجح للعماد سليمان، ومطالبتها بسلة حل متكاملة، ففريق الموالاة شحن الأجواء باتهامات للمعارضة بأنها لم تعد تريد العماد سليمان مرشحاً.
كما عمل هذا الفريق ومعه ـ وللأسف ـ مرجع ديني مسيحي كبير، على الترويج أيضاً لإشاعات تتهم المعارضة بأنها شريكة في الاغتيالات ومنها اغتيال الرائد وسام عيد مؤخراً، وأنها تريد تقويض الاستقرار في لبنان من خلال ضرب مؤسسة الجيش والمؤسسات الأمنية.
كل هذه المعطيات معطوفة على مجريات الحدث الدموي يوم الأحد، ومواقف فريق الموالاة التي تبعته، لا تدع مجالاً للشك، بأن هذا الفريق كان يهيئ المناخات لما جرى، ولدفع الأمور نحو أهداف محددة يريدها هو وراعيه بل مدبره الأميركي.
كل ما تقدم، يؤكد التالي:
أولاً: أن الجيش وقيادته أمام امتحان حقيقي هذه المرة، امتحان في الصدقية لا يخرجهما منه بنجاح وسلام إلا تحقيق عادل وشفاف وموضوعي، ويخرج بنتائج محددة وواضحة، ويسمي الأشياء بأسمائها.
ثانياً، أن الجيش ولبنان ما زالا تحت وطأة مؤامرة كبرى يخطط لها الأميركي وفريقه في لبنان، وهي لن تتوقف الا عندما تيأس، واليأس لا يتحقق إلا بمنعها من أن تأخذ مداها، وبكف أيدي المتآمرين أولاً وأخيراً.
ثالثاً: أن الجرح بقدر ما هو مؤلم، فإنه يتطلب اليقظة والوعي والانتباه، لأن العدو يائس ويدرك أن عمره بات قصيراً، ولذا يجب أن نفوت عليه أحابيله حتى نختصر الخطوات نحو الانتصار.
رابعاً: لا شك في أن قيادتي أمل وحزب الله تصرفتا بحكمة بالغة، ومعهما جماهيرهما، الذين عضّوا على آلامهم، هذه الحكمة هي التي قصفت عمر المؤامرة في مهدها.
خامساً: أن نقطة نهاية يجب أن توضع نهائياً وبشكل حاسم على عمليات استسهال القتل، واستسهال حياة الناس وكرامتهم، وإلا.. فلا يلومنّ أحد إلا نفسه من الآن فصاعداً.
الانتقاد/ العدد1252 ـ 1 شباط/ فبراير 2008