ارشيف من : 2005-2008

حقائق أنكرها العرب وأقرّها "فينوغراد"

حقائق أنكرها العرب وأقرّها "فينوغراد"

كتب د. عصام نعمان
تقرير فينوغراد لا يخصّ "إسرائيل" وحدها.. إنه يخصّ العرب أيضا. فهي في حربها الثانية على لبنان صيف العام 2006 كانت، شأن حروبها الخمس السابقة لها، في حربٍ مع العرب، كلهم أو بعضهم. من هنا تنبع أهمية التقرير الذي لم يكشف ثُغراً ونواقص وتقصيراً وضعفاً في بنية "إسرائيل" وأداء مستوييها السياسي والعسكري فحسب، بل كشف أيضا إنكاراً فاضحاً لحقائق ارتكبه العرب، لا سيما المسؤولين فيهم أثناءها وفي أعقابها.
أبرز الحقائق التي أنكرها العرب، وفي مقدمهم المسؤولون اللبنانيون من أركان الطبقة السياسية القابضة، خمس:
أولى الحقائق اعتراف "إسرائيل" عبر لجنة فينوغراد الرسمية بهزيمتها في الحرب . صحيح ان اللجنة توخّت حفظ ماء الوجه فاختارت المواربة في التوصيف باستعمالها عبارة "لم ننتصر"، لكنها استدركت للتوّ بالقول إن الإخفاق ولّد "شعوراً بالانكسار والخيبة لدى الجمهور الإسرائيلي". غير ان آخرين من سياسيين وإعلاميين، لم يتوانوا عن توصيف التقرير في مضمونه وآثاره بأنه "هزة أرضية"، فالهزيمة تُحدث هزةً أرضية ربما أكثر من الانتصار.
هذا الإقرار بالهزيمة يأتي لأول مرة بعد ستين عاماً على قيام "إسرائيل" وانتصارها على العرب مجتمعين. ومع ذلك فإن العرب الحاكمين لا المحكومين، أنكروا على العرب المقاومين، أي على المقاومة اللبنانية، انتصارها، بل إن بعضهم، لا سيما المسؤولين اللبنانيين، جزموا بأن المقاومة هُزمت في الحرب، وأن لبنان خسرها تالياً بسبب الدمار الكبير الذي لحق بعمرانه والخسارة البشرية التي لحقت بإنسانه. لقد تناسوا حقيقة ساطعة ان المنتصر كما المنهزم يخسر بشراً وحجراً وشجراً في الحرب، لكن معيار النصر ليس ماديا بقدر ما هو سياسي، وأن ذلك يتجلّى في انكسار إرادة المهزوم او في عجزه عن تحقيق أهدافه من وراء شنّ الحرب او في الاثنين معاً. والحال ان "إسرائيل" عجزت بإقرارٍ من لجنة فينوغراد، عن تحقيق ما هدفت إليه، وأن المقاومة صمدت وصدت العدوان بكفاءة نادرة، وأنها إنتصرت في صراع الإرادات.
ثانية الحقائق ثبوت مبادرة "إسرائيل" إلى شنّ الحرب على المقاومة ولبنان. فاللجنة الرسمية أقرّت بأن "إسرائيل خرجت إلى حرب طويلة بادرت هي إليها"، وليس المقاومة كما حاول بعض أركان النظام العربي الرسمي ان يلقي في روع الناس. ولعل أبرز الجهات في ارتكاب هذه الخطيئة حكومة فؤاد السنيورة التي سارعت بعد ساعات قليلة على قيام المقاومة بأسر جنديين إسرائيليين على مقربة من الخط الأزرق ـ وهو ليس حدوداً سياسية معترفاً بها ـ ومباشرة "إسرائيل" للتوّ هجوما شاملاً على لبنان براً وجواً وبحراً، إلى التنصل من أي مسؤولية لها عمّا قامت به المقاومة، وأن ليس لها علم مسبق بها، مع اتهام ضمني سرعان ما أصبح علنيا، بأن المقاومة تُمسك بدلاً من الدولة بقرار الحرب والسلم! وفي غضون ساعات أيضا كان مسؤولون آخرون في أكثر من بلد عربي يصفون عملية المقاومة بأنها "مغامرة غير محسوبة"، وأنها وفرت للعدو ذريعة لشنّ الحرب على لبنان. تُرى ماذا سيقول هؤلاء المسؤولون بعد أن أقرّت لجنة فينوغراد بأن "إسرائيل خرجت إلى حرب طويلة بادرت هي إليها"؟!
ثالثة الحقائق إقرار لجنة فينوغراد بالأضرار الفادحة البشرية والنفسية والمادية التي ألحقتها صواريخ المقاومة بالجبهة الداخلية الإسرائيلية.. ذلك ان المقاومة تمكّنت لأول مرة في تاريخ الحروب العربية ـ الإسرائيلية، من نقل الحرب إلى أرض العدو، وبالتالي تأمين "استمرار إطلاق الصواريخ على الجبهة الداخلية من دون توقف لغاية وقف النار". هذا فضلاً عن آلاف العائلات الإسرائيلية التي نزحت عن منطقة الجليل إلى مناطق أكثر أمنا، وآلاف العائلات التي اضطرت للمكوث في الملاجئ طيلة فترة الحرب. هذه الحقيقة أنكرها العرب أو تجاهلوها، لا سيما المسؤولون اللبنانيون الذين حرصوا على تذكير مواطنيهم كما الغير، بالدمار والأضرار الفادحة التي لحقت بلبنان جرّاء تفرّد المقاومة باتخاذ قرار الحرب بمعزل عن الحكومة. إن لهذه الحقيقة، حقيقة الأضرار البالغة التي لحقت بـ"إسرائيل" بفعل المقاومة، دلالة بالغة الأهمية، إذ أدركت قيادات الكيان الصهيوني انه لن يكون في وسعها بعد اتضاح حقائق حرب تموز، أن تفلت من العقاب والأضرار الفادحة، لا سيما عقب ثبوت اقتدار المقاومة وقدرتها على نقل الحرب إلى عمق الكيان الصهيوني. وذلك سيحدّ بالتأكيد من قدرة "اسرائيل" على المناورة، وسيجعلها تفكر مرتين قبل ان تقرر شنّ الحرب على لبنان مرة أخرى.
رابعة الحقائق إقرار لجنة فينوغراد ان حرب تموز كانت خياراً سياسياً اعتمدته "إسرائيل" وأعدّت له من أجل تحقيق أغراض محددة. ففي معرض نقدها للمستويين السياسي والعسكري أقرت اللجنة بأن "أهداف الخطوة العسكرية كانت مشروعة ولم تُستنفد في محاولة تسريع التسوية السياسية أو تحسينها". وإذ أقرّت اللجنة أيضاً باعتماد الحرب وسيلة لتحقيق أغراض سياسية، نراها أكدت "مشروعية" هذا الخيار، وبالتالي القرار بتوضيح الغاية من اتخاذه: أهداف الخطوة البرية كانت مشروعة، ولم يكن هناك فشل في الخروج لهذه العملية ذاتها إذ وفرت لحكومة "إسرائيل" مرونةً عسكرية وسياسية ضرورية (...) فقد كانت لحرب لبنان الثانية انجازات سياسية فعلية: إقرار مجلس الأمن القرار (1701).. هكذا يتضح انه كان لحكومة إيهود أولمرت هدف محدد من وراء شن الحرب، هو إنشاء وضعٍ سياسي وعسكري في جنوب لبنان مغاير للوضع الذي كان سائداً. تقرير فينوغراد لم يقل إن تحقيق هذا الهدف يتطلب ضرب المقاومة وتجريدها من السلاح، لكن خوض الحرب في مسرح عمليات واسع يتعدى جنوب لبنان يثبت وجود هذا الهدف في مخطط الحرب. ومهما يكن من أمر، فإن مجرد إقرار اللجنة بخيار الحرب ومشروعيتها وسيلة لتحقيق أغراض سياسية كافٍ بحد ذاته لترسيخ فهم استراتيجي لمخططات "إسرائيل"، مفاده احتمال غالب بعودتها إلى الحرب، عاجلاً أو آجلاً، ضد لبنان وسوريا أو غيرهما من الدول التي تصنّفها عدوة لها.
خامسة الحقائق وأهمها ثبوت جدوى المقاومة وفعاليتها برغم عدم التكافؤ العسكري بين العرب و"إسرائيل". فلبنان دولةً ومجتمعاً وجيشاً ومقاومةً أضعف من الكيان الصهيوني، لا سيما على الصُعُد الإقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، ومع ذلك فإن رسوخ إرادة القتال لدى مقاومته الباسلة وتنظيمها وجهوزيتها، كانت عوامل كافية بل حاسمة لإنتاج حقيقة استراتيجية وازنة، هي أرجحية صراع الإرادات وتقدّمها على ميزان القوى العسكرية في الحروب الشعبية. ولعل الدرس الأول المستفاد من حرب تموز انه أصبح في مقدور تنظيمات المقاومة الشعبية الجدية والجادة، بالتعاون مع الحكومات العربية الملتزمة، مواجهة "إسرائيل" كقوة توسعية معادية ومتحالفة مع الولايات المتحدة، وأن تخوض صراعاً طويلاً ضدها وتدحرها وتنتصر عليها.
متى يتوقف العرب عن إنكار هذه الحقائق الساطعة ويستوعبون دروسها؟
الانتقاد/ العدد1252 ـ 1 شباط/ فبراير 2008

2008-02-01