ارشيف من : 2005-2008
ثنائية الموت والأمل في غزة: دراما عابرين في كلام عابر
كتبت منى حرب
دراما كبرى كتبها وأخرجها ـ هنا في غزة ـ الموت! ولأن اسمه اقترن بالدم كان لا بد من ترك النهاية مفتوحة.. ففي عقول الفلسطينيين أن تبقى في غزة فأنت حتما ستموت! ولأن سيناريوهات الحياة والحرية والأمل تتشابك دائما مع سفينة الحصار والعدوان والظلم، وأخيرا الموت، كان لا بد من أن نضع نقطة البداية لبدء صفحة جديدة نخط بها سطور الفرح المنقوص الممزوج ببقايا الأمل.
وإذا كان لزاماً علينا أن نبحث عن تاريخ معين لنروي جزءاً من سيناريو وحوار حياة المواطن الفلسطيني الذي وصف بأنه صعب المراس ولا يسمح لنفسه بأن يسقط كورقة خريف، فليكن ذلك من نحو أسبوع.
السيناريو الأول
بطولة مسلحين زرعوا متفجرات على طول الشريط الحدودي على الحدود الفلسطينية المصرية عندما قرع جرس الإنذار بأن الوضع في غزة بات أخطر بكثير مما يتوقعه البعض، كان لا بد من إطلاق صفاره البداية والعد التنازلي.
ثلاثة.. اثنان.. واحد.. ابدأ. الساعة الثانية بعد منتصف الليل من ذات الموعد المذكور، أبو عبد الله، أبو عبيدة، أبو همام، أبو حذيفة، هل أنتم جاهزون؟ هكذا سأل القائد.. نعم على أتم استعداد.
اتصال هاتفي جرى مع الجانب المصري "ألو.. الأشقاء المصريين، نحن جاهزون.. ثوانٍ معدودة وكل شئ على ما يرام".
الجانب المصري: "على جميع سكان المناطق الحدودية القريبة من الجانب الفلسطيني الابتعاد.. على الجميع اخذ أقصى درجات الحيطة والحذر.. نكرر على الجميع".
وفجأة إذ بذلك الجدار الحديدي الذي اهترأ بفعل عوامل التعرية وتحول لونه الأبيض إلى صدأ، بات ركاما الساعة الثالثة فجرا، أي بعد حوالى ساعة تقريبا من بدء العملية.. وأفاق سكان مدينة رفح على دوي الانفجارات واعتقدوا للحظات قبل أن يشاع خبر فتح الحدود الفلسطينية المصرية، بأن ما حدث كان عملية قصف جديدة نفذتها طائرات الاحتلال.. بعد دقائق معدودة ولأن حب الاستطلاع والحصار الخانق الذي كبت أنفاس الفلسطينيين كان الدافع، استل الجميع حقائبه الفارغة أصلا ومضى في طريقة، ولكل منهم غاية يريد أن يقضيها، وكأن انتفاضة غزية وسط سيول بشرية كانت سيدة الموقف، وكأنما كانت كلمة "جاهزون على أتم الاستعداد" بين قوى الأمن المصري ومسلحين فلسطينيين كلمة السر.
السيناريو الثاني
مواطنون فلسطينيون ومصريون كانت الحدود نقطة التقائهم قبل أن يعبر كل منهم إلى الجانب الآخر أو الوطن الثاني، إما ليرى ذويه الذين حرم من رؤيتهم سنوات، وإما ليبتاع ما نفد من أسواق غزة.. وبلا شك ليتنفس هواء جديدا لم يعتد عليه من قبل.
أما المثير للضحك والاستغراب معا فأن تقف على بقايا تلك الحدود المتفجرة وتسترق النظر لترصد بعينك الواقع.. شخص ينادي جنيه.. شيكل.. مين عاوز يصرف فلوس؟ وآخر آثر أن يجرب حياة المصريين فجلس على أحد المقاهي المفقودة أصلا في غزة وحلق بنظره في شاشة التلفاز يتابع مباراة كرة قدم وهو يقول: "عندك واحد شاي وصلحه!!".. تسير قليلا وسط جموع الغزيين الذاهبين والآيبين، ترى أطفالا بلا ضحكة بريئة ينتظرون دورهم إما في الذهاب لمدينة العريش التي أصبحت بالنسبة اليهم كتكبيرة العيد كلما سمعوا اسمها، وإما ليمرحوا تحت سماء جديدة.
ولو أردت أن تمعن في الضحك بعد النظر ما عليك إلا أن تنظر بعينك قليلا إلى السماء لتجد رافعة تحمل إما جملا أو عنزة أو بقرة، وربما انتشلت شخصا لم يتمكن من العبور وسط زحمة العابرين!
السيناريو الثالث
"غزة تغرق في الظلام"، "غزة تستغيث"، أو "غزة بلا دواء ولا غذاء".. عناوين من بين أخرى تصدرت نشرات الأخبار والصفحات في الصحف الصادرة خلال الأيام القليلة الماضية، ولكن يبدو أن المأساة اكبر وأعمق من أن تختزل في "مانشتات" أو عناوين أخرى أيا كان نوعها. ولأن المأساة لا تقتصر على من يعيش وراء أسوار حصار محكم ومتعدد الأطراف منذ ثمانية أشهر بلغ ذروته بقطع الكهرباء والمياه وكل أسباب الحياة وسط استمرار القتل المباشر بكل وسائل الحرب، كان لا بد من أن نرى الوجه الآخر من الوطن الشقيق.
بلال برهوم (49 عاما)، فلسطيني مصري هكذا عرف نفسه، يقطن في مدينة رفح المصرية، وعاش طفولته في رفح الفلسطينية.. وجاء تقسيم الحدود ليضعه في الجانب الآخر وليكمل حياته هناك، وربما كان وجوده عند نقطة الحدود وسط وجود قوى الأمن المصري الذي رسم الابتسامة على وجهه وكأنه يلقي بالتحية على الفلسطينيين بأن "أهلا وسهلا بكم في بلدكم مصر".. كان وجود ذلك الرجل الذي ارتدى بلوزة خضراء ووضع على كتفه كوفية بيضاء مزجت باللون الأسود وهو ينظر بعينيه اللتين تبرقان بالدموع إلى مسقط رأسه ومكان لعبه ومرحه وأصدقائة، كان مغايرا عن الجميع. ودون أن نطلب منه الحديث بادرنا بالقول: "أتعلمون لماذا أنا هنا"؟ اعتقدنا انه تحدث مع غيرنا، لكنه كرر الحديث وقال لنا: "الحنين إلى مسقط رأسي وأصدقائي ولعبي ومرحي وطفولتي وأصدقائي شدني".. سألته: هل ذهبت لرؤية أي منهم؟ فقال: لا أريد أن أحزن، لا أريد.. لأن الفرح حتما سيزول. أيام قليلة ونعود إلى سابق عهدنا، لا أحد يعلم ما يدور خلف الكواليس، ولكنني إذا ما ذهبت إلى هناك ـ يقصد رفح الفلسطينية ـ فلن أعود، لكن حياتي ومصالحي جميعها وجدت في سيناء.. ماذا أفعل؟
سؤال بالفعل أضحى محيرا، ولكن تبقى الإجابة عنه مرهونة بلا شك بتلك الاجتماعات والكواليس التي يخفت ضوؤها وتخرج علينا دائما بما لا تحمد عقباه!
السيناريو الرابع
حركة اقتصادية نشطة وغير مسبوقة شهدها قطاع غزة منذ عدة أيام، بعد أن اجتاز آلاف الفلسطينيين معبر رفح الحدودي وصولا إلى الأراضي المصرية ليتزودوا ببضائع شح معظمها وارتفعت أسعارها أضعافا مضاعفة.
هذا ليس كل شيء، لأن فتح الحدود كان فرصة مناسبة جدا لأحمد ذاكر (56 عاما).. وكغيره من العمال العاطلين عن العمل في قطاع غزة منذ بدء الانتفاضة الحالية، ولأن أوضاعه الاقتصادية السيئة فاقت الحدود الممكنة، كان لا بد من الاستناد إلى قاعدة "أن الحاجة هي أم الاختراع".. فأصبحت الحدود المفتوحة لأحمد الذي يعيل 12 فردا مورد رزق. جلس قليلا أمام باب منزله في مخيم الشابورة غرب محافظة رفح جنوبي قطاع غزة، يضع سيجارته في فمه المختبئ بين ثنايا لحيته البيضاء وهو يحرك "طاقية" صوفية ممزقة وضعها على رأسه يمينا ويسارا ويحدث نفسه قائلا: "لماذا لا أبحث عن عمل؟! هذه فرصة لا تعوض".. ونظر بعينيه اللتين اختبأتا خلف نظارته ذات العدسات السميكة إلى دراجته الصغيرة وقام بتحويلها إلى عربة متجولة يضع فيها بعض حبات "الفوشار" المقلي المعبأ في أكياس صغيرة، تجاوره صينية رص عليها حبات من بلح الشام، وزين العربة وكتب عليها "الحياة حلوة".. ومن ثم انطلق إلى هناك حيث اعتقد الجميع أن غزة ستصبح سنغافورة. ومنذ تلك اللحظة وذاكر الذي تمنى أن تبقى الحدود مفتوحة وهو يقيم في ذلك المكان يأتي من الساعة السادسة صباحا ولا يغادر إلا بعد منتصف الليل نظرا لاستمرار حركة المرور من وإلى الأراضي المصرية لساعات متأخرة من الليل، يحمل في جيب قميصه الممزق في هذا البرد القارس (50) شيكل فقط، قال إنها بلا شك كنز لم يحصل عليه من قبل.
قد تبقى تلك السيناريوهات مفتوحة دائما على مصراعيها تسطر كل ما يجد في دراما الفلسطينيين المكتوبة بثنائية الحياة والموت. وربما يبقى أهالي غزة عابرين في كلام عابر!
الانتقاد/ العدد1252 ـ 1 شباط/ فبراير 2008