ارشيف من : 2005-2008
خطاب بوش الوداعي: ثقل الاخفاقات الخارجية ووطأة الوعود الداخلية
يكشف الخطاب الاخير عن حال الاتحاد الذي القاه الرئيس جورج بوش عن حجم التركة الثقيلة الذي سيسلمها الى خلفه في شهر كانون الثاني من العام المقبل. وهو بمعنى آخر قدم اعلانا عن فشله في تحقيق انجازات استراتيجية خلال ولايتيه ذلك ان هدف ما أدلى به في واحد من آخر مواعيده مع الشعب الاميركي هو محاولة اقناع مواطنيه بضرورة استمرار ثقتهم به خلال الاثني عشر شهرا المتبقية له في البيت الابيض، في وقت يعاني الرجل من تدهور غير مسبوق في شعبيته نزلت الى الثلاثين في المئة، وهو لذلك بدا مُقِلاً في الكلام عن قضايا السياسة الخارجية ومكثرا من الحديث عن القضايا الداخلية خصوصا المتعلقة بالشق الاقتصادي في وقت يهيمن على الاقتصاد الاميركي تهديد بالركود والانكماش.
وفي الخطاب الذي خصص القسم الاكبر منه للشأن الاقتصادي، دعا بوش الى الاسراع في تطبيق خطة الانهاض التي افسحت في المجال لتوافق سياسي نادر في الايام السابقة. في وقت يهيمن على الاقتصاد تهديد بالركود. وأشاد بقوة الاقتصاد الوطني والتبادل الحر.
واذا كان العراق القضية الخارجية الحصرية التي تعني الناخب الاميركي لاسباب عدة ابرزها: وضع نحو مئة وستين الف جندي اميركي في قلب الموت في هذا البلد الذي لم يؤد غزوه قبل نحو خمسة اعوام إلا إلى تعميق اهتزازه السياسي وتفعيل الانقسامات المذهبية والعرقية فيه، فيما بدا "الارهاب" الذي يضع بوش تحت اسم الحرب العالمية عليه كل حروبه ومشاريعه الخارجية، اكثر نموا وأكثر تهديدا من ذي قبل، ذلك ان مستوى العنف في العراق بلغ حدودا غير موصوفة في استهداف الابرياء والمدنيين، في وقت بدا بوش وفريقه الحربي كمن ورطوا الولايات المتحدة في معركة قاسية وطويلة لن تنتهي قريبا حسبما اقر في خطابه، وهي رهن بالتطورات الميدانية على الارض وبالاستقرار السياسي البعيد المنال، ما يعني ان أي سحب لمزيد من الجنود الاميركيين من العراق غير الثلاثين الفا الذين تنتهي خدمتهم في تموز/ يوليو القادم ليبقى مئة وثلاثون الفا منهم، هو مغامرة غير محسوبة خصوصا قبل ان تثبت القوات العراقية قدرتها على السيطرة على الارض، وهو امر غير متوقع في المدى المنظور، لان أي انسحاب سيفرط بما اسماها بوش المكتسبات التي تم تحقيقها عام 2007، مع انه كان العام الاكثر دموية لقوات الاحتلال الاميركي التي قارب عدد قتلاها في هذا البلد الاربعة آلاف منذ غزوه، وسجل مقتل خمسة جنود اميركيين في الوقت نفسه الذي كان يلقي فيه بوش خطابه امام الكونغرس.
وفي خلاصة كلامه ان القيادة الميدانية هي التي تملك حق تقدير الوضع وتحديد امكانية أي انسحاب من عدمه، ما يعني ان خَلَفه في البيت الابيض سيرث ازمة من غير المعروف متى تنتهي ما دامت مرتبطة بالوقائع الميدانية، كي لا يؤدي اي انسحاب متسرع الى تفكك قوات الامن العراقية واستعادة تنظيم القاعدة لما فقده وتصاعد العنف.
اما القضية الخارجية الثانية المتصلة بإيران فبدا حضورها خجولا في خطاب بوش لا سيما بعد تقرير اجهزة الاستخبارات الاميركية بشأن عدم سعي طهران لامتلاك السلاح النووي حالياً، لذلك كان بوش مهذبا في "رسالته الى القادة الايرانيين بأن اوقفوا تخصيب اليورانيوم بطريقة يمكن التحقق منها (...) وتوقفوا عن القمع في بلدكم، وكفوا عن دعم الارهاب في الخارج. لكن قبل كل شيء عليكم ان تعلموا ان الولايات المتحدة ستواجه الذين يهددون قواتها وستقف الى جانب حلفائها وستدافع عن مصالحنا الحيوية في الخليج الفارسي"، ليشير هذا النص المقتضب عن عمق ازمة الخيارات التي تواجهها واشنطن ازاء من توصف بأخطر اضلع محور الشر، ليتقلص الحديث عن حماية القوات الاميركية في الخليج بعدما تلقت تهديدا من سفن البحرية الايرانية مؤخراً، الامر الذي اثار سخرية طهران التي نصحت بأن يهتم بوش خلال الفترة المتبقية له من ولايته بالمشاكل الحقيقية لشعبه الذي يعاني من انكماش الاقتصاد الاميركي، وخيبة العسكريين الاميركيين الذين يواجهون الاحباط جراء احتلال العراق. وبالتالي فإن بوش لم يتطرق إلى أي استراتيجية للتعامل مع الملف النووي الايراني بعدما ملأ العام 2007 بمواقف وتصريحات حربية وتصعيدية لم يجد أي منها طريقا لها على الارض، لا بل كان يتوسل من الايرانيين حوارا مباشرا حول العراق تحكمت القيادة الايرانية في تحديد مواعيده وجدول اعماله ونتائجه.
اما النقطة الثالثة الخارجية المتعلقة بالسلام في الشرق الاوسط وتعايش اسرائيل مع دولة ديمقراطية فلسطينية تحارب الارهاب، وحديثه عن وضع ثقله لتحقيق اتفاق قبل نهاية ولايته بهذا الشأن، فإنه لا يلقى أي آذان ولا أي ردود فعل لا اميركية ولا في المنطقة، باعتبار ان كل الكلام الاسرائيلي منذ مؤتمر انابوليس وما بعده والوقائع الميدانية اكدت استحالة تحقيق خرق ولو محدودا في هذا المجال.
يبقى ان القضايا الاساسية التي تهم الناخب الاميركي والتي احتلت الحيز الاكبر من خطاب بوش هي المتعلقة بالشق الاقتصادي مع اعترافه بأن الاقتصاد الاول في العالم يواجه "مرحلة قلق"، من دون ان تبددها دعوته للاميركيين بأن يثقوا في "نمو اقتصادنا على المدى الطويل"، مع ان خطر حدوث انكماش في هذا الاقتصاد اثار موجة من الذعر في اسواق المال في العالم مؤخراً.
وعليه فإن رهان بوش هو على تبني الكونغرس خطة الانعاش التي تقدم بها بقيمة 140 مليار دولار، وشكلت محور اتفاق سياسي نادر الاسبوع الماضي. وعليه بانتظار موافقة الكونغرس على هذه الخطة فإن ادارة بوش اعترفت بأن الوقت القليل الذي تبقى له في البيت الابيض وتعايشه الصعب مع الكونغرس لن يسمحا له باتخاذ مبادرات كبرى. وتتركز هذه الخطة حول حزمة من اجراءات نمو ثابت تشمل تخفيف الضرائب عن الافراد والاسر واخرى تحفيزية لقطاع الاستثمار، وهو يعتبر ان نمو الاقتصاد الاميركي مرتبط بشكل متزايد اليوم بقدرته على بيع السلع والمحاصيل والخدمات الاميركية في العالم، لذلك يعمل من اجل ازالة الحواجز امام التجارة والاستثمار في اي مكان يستطيع تحقيق ذلك، وهو يعمل من اجل نجاح دورة الدوحة للمفاوضات التجارية لانجاز اتفاق جيد خلال العام الجاري.
وربطا بهذا الموضوع احتلت الهجرة غير الشرعية حيزا مهما في خطاب بوش فاعتبر انه "لا يمكننا ضمان امن الحدود بشكل كامل قبل ان نوجد طريقة قانونية لمجيء العمال الاجانب الى بلدنا والسماح بتعزيز القوانين للتركيز على الذين يسعون لالحاق الضرر بنا، والسعي لخلق الوسيلة الشرعية لليد العاملة الاجنبية للمجيء الى هنا ودعم اقتصادنا".
وفي شق آخر ربط الرئيس الاميركي جورج بوش التزامه بالعمل على تشجيع خفض انبعاثات الغاز المسببة لارتفاع حرارة الارض، بشرط ان تفعل الصين والهند الشيء نفسه لمكافحة التغييرات المناخية العالمية، داعيا الى "اقامة صندوق دولي جديد للطاقة النظيفة لمساعدة الدول النامية مثل الهند والصين على استخدام اكبر لمصادر الطاقة النظيفة.
وعليه فإن خطاب الوداع هذا لا يشير الى ان بوش بعد ثماني سنوات من ولايته سيترك البيت الابيض من دون ان يخلف وراءه انجازات تحسب له لا داخلياً ولا خارجياً.
عبد الحسين شبيب
الانتقاد/ العدد1252 ـ 1 شباط/ فبراير 2008