ارشيف من : 2005-2008

ما هي الأبعاد والأهداف السياسية لحادثة الأحد الدامي؟ وما هو دور الفريق الحاكم؟

ما هي الأبعاد والأهداف السياسية لحادثة الأحد الدامي؟ وما هو دور الفريق الحاكم؟

ليست المرة الأولى التي توجه فيها رصاصات الغدر وقذائف الموت نحو صدور أبناء الضاحية الجنوبية وفي ظن مطلقيها أو معطي أوامر الإطلاق والتدمير، أنهم ينفذون مشروعاً بعيد المدى والأهداف غايته القصوى جعل دماء أبناء هذه المنطقة جسر عبور إلى تكريس سلطة أو تثبيت أمر واقع، أو الحؤول دون حدوث تفسير ما بدأت نُذُره تطل.
هذا الحال تكرس أكثر ما يكون منذ أن تولى الرئيس أمين الجميل الرئاسة الأولى بعدما مهدت له الدبابة الإسرائيلية في اجتياح عام 1982، بلوغ قصر بعبدا، فكانت أحداث بئر العبد والرمل العالي ثم كان التدمير الشهير لأحياء بكاملها من هذه المنطقة في عام 1984..
والهدف الأقصى لجعل أجساد أبناء الضاحية حقل تجارب واحداً وهو محاولة النيل من عزيمة أبناء هذه المنطقة وقاطنيها، لكونهم يشكلون السد المنيع في وجه القبض على زمام الأمور في البلاد وفق المشيئة الأميركية، إنفاذاً للتوجهات الأميركية، ولكن في كل مرة تندرج أهداف ومقاصد أخرى شتى.
في الحرب الاسرائيلية الشرسة على لبنان في تموز عام 2006 كانت الضاحية بما تمثل وبما تختزنه الهدف الأول للطيران الإسرائيلي، فمسح أحياء بكاملها ودمر مئات الأبنية موقعاً سلسلة مجازر بساكينها، ولذا ساءهم أن تعيد هذه المنطقة بناء ما تهدم، وترفع عمدان ما تدمر في سرعة قصوى تجسد العزم والعزيمة على مسح آثار العدوان وكأنه لم يكن.
لذا ربما لم يكن مفاجئاً أن يغدر بالضاحية وجمهورها بعد ظهر الأحد الماضي على النحو الذي غُدرت به، وأن يسقط من بين ساكينها هذا العدد من الضحايا، والهدف الأول معنوي هو وأد هذه الروح الممانعة والوثابة التي تخيم على هذه المنطقة، وبالتالي اثخانها بالجراحات والانكسارات النفسية دوماً.
في كل مرة تكون فيها السلطة الغاشمة الظالمة، في حالة بحث عما يعيد لها الاعتبار، وينجيها من سقوط وشيك محتم، تكون الضاحية وأبناؤها هي الهدف، وفي كل مرة تكون فيها مشاريع الادارة الاميركية في لبنان والمنطقة في حالة تعثر تتوجه الأصابع إلى هذه المنطقة، طالبة جرح كبريائها  والنيل من عزتها، إدراكاً من أصحاب هذه الأصابع، أن روح الممانعة انما تكمن في هذه المنطقة بالذات، والحجج إياها تارة "بيوت زائدة" وطوراً "خروج على النظام".
ولكن في النهاية المطلوب واحد، وهو إهدار أكبر كم من دماء بنيها على اسفلت الشوارع لعلّهم يهدرون معه شيئاً من عزتها ومنعتها، فيسهل عليهم بالتالي امرار كل ما يريدونه.
في الآونة الأخيرة، بدا مشروع التسلط والاستئثار الذي تجسده الأكثرية الوهمية في حالة حصار بلغت حد الاختناق، فالدعم الاميركي والغربي عموماً اليومي لحكومة السنيورة الفاقدة الشرعية بات ضئيل الفائدة، والدعم "العربي" بلغ مداه في المبادرات العربية الملتبسة والمبهمة وفي تفسير الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى التي لم تجد لها في بيروت صدى وآذاناً صاغية.
والى جانب ذلك كله انكشفت بشكل جلي الأبعاد الكبرى لخطوة الموالاة في مسارعتها لتزكية قائد الجيش العماد ميشال سليمان مرشح "تسوية" بعدما سبق ورفضته مراراً وعدته موظفاً فحسب عليه تنفيذ الأوامر المعطاة له.
كان جلياً انهم انما وافقوا على هذه الخطوة لأنهم أرادوها ممراً لأمرين، الأول التصرف بمرحلة ما بعد ملء الفراغ الرئاسي الحاصل منذ ليل 23 تشرين الثاني الماضي، وعلى نحو يبيح لهم انتاج واقع جديد يكون على  غرار الواقع الحالي، أي حكومة يمسكون بأكثريتها وناحية المراكز الأمنية والادارية العليا لينفذوا عبرها ما عجزوا عن تنفيذه خلال الأعوام الثلاثة التي انقضت على إمساكهم بمقاليد الحكم.
والأمر الثاني جعل قائد الجيش أسير لعبة الرئاسة الأولى واغراءات بلوغ قصر بعبدا وملء الكرسي الشاغر فيه.
وبمعنى آخر كان المقصود "ترويض" هذا الرجل وبالتالي إخراجه عن التاريخ السياسي العسكري له، ولا سيما في مجال علاقته الوثيقة بالمقاومة، وبالتالي جعله في مواجهة المعارضة عموماً والمقاومة وجمهورها وثقافتها على وجه الخصوص.
ولم يعد خافياً درجة "التوتر" العليا التي أصيب بها أحد رموز المعارضة، رئيس تيار "المردة" الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية، وهو يتلمس مستوى التغيير الذي طرأ على تفكير سليمان وعلى سلوكه وأدائه خلال اجتماع شهير له معه.
ولقد أفصح فرنجية لاحقاً عن بعض من معالم هذا التغيير الطارئ الذي يخرج الرجل عن صورة معروفة كوّنها لنفسه خلال توليه قيادة الجيش وجعل المعارضة تتخلى عن مرشحها الوحيد العماد ميشال عون وتتقبل به، وذكر فرنجية لاحقاً كيف أن العماد سليمان كشف له على سبيل المثال عن تعهدات أعطاها للنائب سعد الحريري بإبقاء بيروت دائرة واحدة في الانتخابات المقبلة حتى وان تمت الموافقة على تقسيم الدوائر الانتخابية على أساس قانون عام 1960.
وكبر الكلام في الكواليس والصالونات السياسية في بيروت وسواها من العواصم عن أهداف أخرى متعددة مُضمرة وكامنة وراء الإتيان بسليمان رئيساً، وأبرزها سحب البساط من تحت أقدام التيار الوطني الحر ورئيسه العماد ميشال عون توطئة لانهائه واجتثاثه مسيحياً ليكون مع قدوم  الانتخابات النيابية المقبلة في عام 2009 خارج حدود المعادلة السياسية تماماً.
كما كبر الكلام نفسه عن أن السعي قائم على قدم وساق بغية إحداث تغييرات في المؤسسة العسكرية تسلخها من تاريخها المعاصر وتضعها في مكان آخر ومغاير تماماً، وخصوصاً أن ثمة صراعا خفيا منذ زمن على هوية هذه المؤسسة وعقيدتها السياسية ظهر من فلتات ألسنة رموز من قادة الفريق الشباطي، ولا سيما وليد جنبلاط وسمير جعجع.
وبمعنى آخر كان المطلوب توجيه ضربة للمؤسسة العسكرية وخصوصاً لوحدتها وتماسكها ولحياديتها، واستطراداً لعقيدتها التي بينت لها العدو من الصديق، ليشهد بالتالي عليهم وضع اليد عليها، وفق منطق "الشراكة" الاستراتيجية الذي تحدث عنه أحد أركان الادارة الاميركية ديفيد والش مراراً، وسعت هذه الادارة لترجمته عملياً عبر إيفاد أحد كبار الضباط الأميركيين إلى لبنان إبان حرب مخيم نهر البارد في الصيف الماضي.
وهكذا كان هم فريق الموالاة طوال الفترة الماضية هو "اسقاط" المؤسسة العسكرية في يدها، لذا لم يكن غريباً أن تصدر الكثير من الأصوات العليمة بهذه المؤسسة وتاريخها لتثير أكثر من سؤال حول أبعاد عملية اغتيال مدير العمليات في الجيش العميد فرنسوا الحاج في بعبدا قبل بضعة أسابيع.
وعندما تناهى إلى علم العاملين للاستيلاء على المؤسسة العسكرية، وأسرها في لعبة الرئاسة المعقودة اللواء لقائدها، أن هذا الرجل ساعٍ عبر أكثر من خطوة، إلى العودة إلى قواعده الأولى، أي تجديد جسور الثقة بينه وبين المعارضة، كانت عملية اغراق هذه المؤسسة في مواجهة الأحد الماضي الدامية في محلة مار مخايل، لعلّ ذلك يكون بداية الفراق بين المؤسسة العسكرية وجمهور المعارضة، وبداية مواجهة بينهما ستتوالى فصولاً وتتسع حدوداً حتى تبدو المعارضة في خاتمة المطاف في مظهر الخارج على القانون والتحدي لمشروع الدولة والمؤسسات.
وكان جلياً أنه إضافة إلى هذا الهدف الرئيسي الرامي إلى محاصرة المؤسسة العسكرية من جهة ووضعها على الطرف النقيض للمعارضة من جهة أخرى، توطئة لفتح أبواب المواجهة مع بعضهما، كانت تكمن أهداف أخرى أبرزها التأثير على وضع المعارضة نفسها وعلى تماسكها ولا سيما بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، وهو التماسك الذي جسدته وثيقة التفاهم بين الطرفين ورسخته تجارب المرحلة التي انطوت بعد إشهار هذه الوثيقة.
لذا لم يكن غريباً أن يوجه إعلام السلطة وفريقها الخائب، الأضواء على مسرح الحادث ويتحدث كذباً وزوراً عن استهداف مزعوم لمنطقة مسيحية هي عين الرمانة، تبين لاحقاً زيفه وبهتانه، إذ لم يعد خافياً أن واحداً من استهدافات مشروع الحفنة الحاكمة كان دوماً التأثير سلباً على الحضور السياسي والشعبي للتيار الوطني الحر ولزعيمه العماد عون ليخلو لهم الجمهور المسيحي لعلّهم بذلك يهيضون مشروع المعارضة بكسر جناحه المسيحي الذي كرس خلال الفترة الماضية صموداً رائعاً واندفاعاً في المواجهة قام على أساس فهم عميق وإدراك واعٍ وقوي لأبعاد ما يمضي به قدماً.
وليس غريباً أن يركز أصحاب المشروع السلطوي والاستئثاري، في كل خطابهم السياسي على مسألة واحدة وهي الزعم أن مشروع المعارضة ليس سوى مشروع فئة لبنانية واحدة، ويزعم هؤلاء ومن يقف وراءهم دوماً، بأنه ليس للمعارضة أية امتدادات ذات قيمة في الطوائف والمناطق الأخرى.
وهكذا، وباختصار، أراد الساعون والمخططون لأحداث الأحد الدامي اضافة إلى التأثير سلباً على صف المعارضة وإضعاف معنويات جمهورها، الإعلان عن أن فريق الموالاة، مستعد للمواجهة، فالمعلوم أنه في الآونة الأخيرة بدأت الأصوات ترتفع من داخل فريق السلطة نفسه تتحدث عن اختلال فاضح في موازين القوى لمصلحة المعارضة، وقد استخدم هؤلاء هذه المقولة ليبرروا فيها عجزهم عن تحقيق الشعارات التي رفعوها وهي قدرتهم على انتخاب رئيس للبلاد يكون من رحمهم السياسي، اضافة إلى قصورهم عن تكريس معادلة تتيح لهم القول انهم يتحكمون بزمام الأمور في البلاد.
ومن البديهي أن هذا الأمر ترك تأثيرات سلبية على واقع طريق الموالاة وعلى معنويات جمهوره، فكان بحاجة ماسة إلى إعادة بعث الحياة والمعنويات في هذا الجمهور، والزعم بأن مشروعهم يمتلك عناصر قوة ومخالب.
لذا لم يكن غريباً الكلام الذي أطلقه بعض رموز هذا الفريق وكان ينضح بالتهديد بشارع مقابل، وبالاستعداد لأية احتمالات مواجهة قد تحدث.
وعليه، لم يكن مفاجئاً أن ينطوي خطاب أركان هذا الفريق بعد أحداث الأحد الماضي على نوعٍ من التشفي بالدماء البريئة المظلومة التي أريقت، والحرص على تبنيها ضمناً واعتبارها رداً طبيعياً على أي تحرك يمكن أن تفكر به المعارضة.
وبمعنى آخر حاولت الموالاة أن توظف أحداث الأحد لرفع معنوياتها الهابطة، والزعم أنها ليست مغلولة اليد، وأنها تمتلك عناصر قوة وفعل في الشارع.
وفي تعداد العناصر والأهداف السياسية التي تنطوي عليها أحداث مار مخايل ثمة من لا يتورع عن الذهاب بعيداً، وليشير إلى دور أميركي خفي وراء هذه الأحداث غايته الرد على الانفجار الذي استهدف السيارة التابعة للسفارة الاميركية في محلة الكرنتينا.
فبرغم أن الادارة الاميركية حرصت على عدم اعطاء أهمية لهذا العمل، إلا أنها تعتبر ضمناً ضريبة كبرى لحضورها في لبنان الذي اعتبرته ساحتها التي حققت فيها ولو اعلامياً ما عجزت عن تحقيقه في الساحات والميادين الأخرى.
ليست المرة الأولى التي تُدمى فيها الضاحية الجنوبية وتُنكب على هذا النحو، ولكن الجميع يعلم أن هذه المنطقة كانت تنهض من بين الركام وتعض على جراحها، وبالتالي تستأنف مسيرة المواجهة وتحقق النصر تلو النصر، من دون أن تهمل معاقبة المجرمين والقتلة ولو بعد حين.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد1252 ـ 1 شباط/ فبراير 2008

2008-02-01