ارشيف من : 2005-2008

التيار الكهربائي أشعل تقاطع مار مخايل بالإطارات

التيار الكهربائي أشعل تقاطع مار مخايل بالإطارات

كانت أخبار العاصفة القطبية تزيد من برودة منطقة الشياح قبل موعد وصولها منتصف ليل الأحد بحسب توقعات مصلحة الأرصاد الجوية.
عصر ذلك اليوم، دخلت العتمة بيوت سكان الشياح كما تفعل دائماً، لأن مؤسسة كهرباء لبنان وبقرار سياسي تصادر التيار من الضواحي الفقيرة الى أحياء العاصمة الادارية المترفة.
تحدت مجموعة من الشباب والفتيان (نحو 50 شخصاً) البرد القطبي، وتوجهت مع بضعة دواليب بالية الى تقاطع كنيسة مار مخايل الذي يربط منطقتي حي ماضي والرويس بالشياح وعين الرمانة، لاعتقادها ان اقفال الطريق سيُعيد التيار كما حدث قبل ذلك أكثر من مرة.
اندلعت النيران وسط التقاطع، ولم تنقطع حركة السير تماماً، كان بإمكان السيارات ان تعبر بين الدواليب المحترقة، ووسط صيحات الفتيان “بدنا الكهرباء.. بدنا الماء”. وخلال دقائق تحول هذا الاحتجاج المحدود الى تظاهرة، تحت ضغط الظلمة ورفضاً لظلم التقنين السياسي، زاد عدد المحتجين، واستعرت النار في الطريق بعدما تم استقدام المزيد من الاطارات المطاطية.
حضرت دورية من الجيش الى المكان وطلبت من الشباب التفرق وفتح الطريق، حدث ذلك عند الساعة الرابعة والنصف تقريباً، وقبل ان تصل تعليمات الضابط المسؤول الى المتظاهرين، وصلت الأوامر الى عناصر الجيش بتطويق حركة الاحتجاج، وعزلها عن شوارع وأحياء الشياح بتعزيز الانتشار الميداني ورص الصفوف، ومن ثم فتح الطريق بأي ثمن.
شعر عدد من المسؤولين المحليين في الشياح وحي ماضي بخطورة ما يجري على الأرض وأدركوا بأن اجراءات الجيش غير المسبوقة في هذه المنطقة وفي مثل هذه الاحتجاجات تستدعي التدخل الفوري.
لم يكن احمد حمزة في تلك اللحظة بالتحديد بين المحتجين، فهو أخبر والده انه سيعود فوراً بعد بيع دراجته النارية الصغيرة، وعندما وصل الى طريق صيدا القديمة، كانت المنطقة تعيش حالة من الاستنفار المسلح للجيش، ولأنه من عناصر الانضباط في حركة أمل، وسبق له التنسيق مع الجيش لفض الاحتجاجات في تقاطع مار مخايل، اقترب من العسكريين يسأل عن النقيب (؟)، وبالرغم من تبديل عناصر الجيش قبل يومين فقط فإن حمزة اشتغل في الوسط، وكان يصول ويجول من أجل التهدئة، يطلب من المتظاهرين اخلاء الشارع، ويعود الى الجيش المستنفر يطلب منه التريث في تفريق الشباب بالقوة. وقرابة الساعة الخامسة سقط احمد حمزة برصاصة في صدره ومن مسافة قريبة جداً، وبحسب شهود عيان فقد انطلقت الرصاصة من بندقية جندي قصير القامة، ويكمل أقارب حمزة المواصفات ويؤكدون انهم تعرفوا اليه بالاسم أيضاً.
انتشر خبر مقتل احمد حمزة في الشياح، ومما زاد في غضب الشارع أيضاً هو اندفاع الجنود بشراسة غير معهودة نحو المتظاهرين باطلاق النار وتعقب بعضهم لاعتقالهم وسحبهم على الأرض بالركل و"اللبيط" والضرب بأعقاب البنادق.
ومع ذلك تقدم بحسب روايات شهود العيان من أبناء الشياح، أحد الشباب من الجندي وقال له "انا من حركة أمل خلينا نتفاهم"، فما كان من الجندي ان صفعه على وجهه وأمره بالتراجع مهدداً باطلاق النار.
حل التفاهم الصعب مع الجنود على الأرض، مكان الوساطات. لم تنفع المناشدات ولا التدخلات بينما أصغى الجميع الى صوت اعلام الطابور الخامس الذي استطاع ومنذ الساعة الخامسة اقناع السياسيين وقيادة الجيش ربما، بأن التظاهرة تنوي الدخول الى منطقة عين الرمانة التي انتشر فيها الجيش اللبناني لحمايتها من "هجوم وشيك".
رفض عدد كبير من المتظاهرين ان يصدقوا موت أحمد حمزة برصاص الجيش لأن بعض الرصاصات كانت تأتي من  بعيد من أبنية عالية في عين الرمانة، ومن مقنعين مسلحين على سطوح الأبنية التقطت صورهم عدسات المصورين.
كانت عين الرمانة مركز انطلاق ودعم لعناصر الجيش الذين تراجعوا الى الأحياء الداخلية، واعتقد أبناء المنطقة ان الجيش أدرك انه ارتكب غلطة من دون قصد لذلك انسحب من الشوارع وترك التظاهرة تُعبّر عن غضبها، وحتى الذين كانوا يتابعون الأحداث عبر النقل المباشر لبعض محطات التلفزة، اعتقدوا ان القصة انتهت عند هذا الحد، لكن ما جرى فاق التمنيات والتوقعات.
عاد الجنود عند الساعة السابعة تقريباً تحت غطاء من الطلقات النارية الغزيرة بعضها كان يأتي من بعيد، وبقرار اكبر بضرورة فتح الطريق وتفريق التظاهرة، في تلك اللحظة تحولت التظاهرة الى مواجهة. رد المتظاهرون على الرصاص بالحجارة وفي ختام الجولة استطاع الجنود ابعاد المحتجين عن التقاطع.
كانت النتيجة سقوط العديد من الضحايا، ولكل ضحية قصة وحكاية، لكن القاسم المشترك ان نصفهم أو اكثر أصابتهم رصاصات قاتلة من مسافة قريبة جداً (25 متراً) بحسب تصريح الدكتور حسن نصار المسؤول الطبي في مستشفى بهمن الذي أكد ان الطبيب الشرعي الذي عاين اصابات الشهداء كتب في تقريره ان الرصاصات أطلقت من مسافات قريبة جداً.
حاولت بصعوبة فرق الاسعاف التي كانت موجودة في المنطقة انقاذ الجرحى الذي سقطوا بالعشرات في محيط كنيسة مار مخايل.
أحد هؤلاء المسعفين يدعى مصطفى أمهز (الهيئة الصحية الاسلامية) أسرع في معالجة مسعف تابع للإسعاف الشعبي أصيب برصاصة مجهولة، وعندما كان يقوم بانعاش احد الجرحى استقرت طلقة غادرة في صدره أسفل قلبه، وتبعتها رصاصة ثانية اخترقت خاصرته، قال الطبيب الشرعي انها انطلقت من بندقية قريبة.
تراجع الجنود مجددا الى الوراء مخلفين العديد من الجرحى والقتلى في صفوف المتظاهرين، وهو ما رفع من وتيرة غضب الشارع الذي عاد الى تقاطع مار مخايل وبمزيد من الاطارات المشتعلة، وخلال دقائق رمى متظاهرون كل ما كان بتناول اليد، مستوعبات النفايات، هياكل السيارات المحطمة، الحجارة، قضبان الحديد. وانتقلت التظاهرات الى طريق صيدا القديمة وطريق المطار والى مناطق لبنانية أخرى في الجنوب والبقاع.
حتى ذلك الوقت لم تتبدل الأوامر لجنود الجيش الذين طلبوا تعزيزات اضافية بحسب شهود عيان، وقرابة الحادية عشرة تدخلت الملالات وناقلات الجُند وشاحنات الريو، والجيبات الصغير والمتوسطة، ونفذوا مناورة بالذخيرة الحية، واقتحموا التقاطع واعتقلوا عدداً من المتظاهرين، واعتدوا بالضرب على الصحفيين، ثم توجهت قوة مؤللة نحو الشوارع الداخلية لحي ماضي والرويس في ما يشبه عملية تمشيط أرهبت المواطنين ووضعت البلد أمام امتحان صعب.
أحد المشاركين في التظاهرة كان اعتاد الاعتصام عند التقاطع للمطالبة بعودة التيار الكهربائي تحدث عن ليلة مرعبة، لم  يصدق ما حدث فيها، واعتقد للوهلة الأولى ان جنودا غير لبنانيين تم انزالهم في الشياح قبل منتصف ليل الأحد بقليل. لأن الآليات تقدمت تحت غطاء من اطلاق النار نحو عمق الضاحية في محاولة لابتزاز القوى السياسية الموجودة فيها.
استطاعت الاتصالات السياسية الرفيعة فض التظاهرة عند منتصف الليل، ولكن الدماء كانت لا تزال طرية على الزفت فيما تولت الأمطار الخفيفة التي أنذرت باقتراب العاصفة القطبية الباردة بإخماد حريق الاطارات، وساعدها عمال التنظيفات في الصباح الباكر في العبث بمسرح الجريمة.
في صباح اليوم التالي كانت كنيسة مار مخايل شاهدة على الجريمة، وعلى كذب اعلام الطابور الخامس، الذي حاول اشعال نار الفتنة بين الشياح وعين الرمانة اعتقادا منه انه سينال من صلابة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر.
كان الحزن يلف الكنيسة وطريق صيدا القديمة ويتربص الخوف بمداخل الشياح وعين الرمانة على جانبي ما كان يُعرف بخط التماس، غالبية الذين التقينا بهم من أبناء عين الرمانة تحدثوا من قلب محروق دون الكشف عن الهوية، قال احدهم ان ما حصل يشبه ذلك اليوم من نيسان 1975 عندما انطلقت رصاصة مجهولة على كنيسة قالوا انها استهدفت الشيخ بيار، وبعدها ارتكبوا جريمة البوسطة التي أشعلت الحرب، أمس انتشر مسلحون ملثمون في شوارع عين الرمانة وحذروا السكان من التجول "لا نعرف هوية هؤلاء، لكننا كنا نشعر بوجودهم". "الانتقاد"، التي جالت على ما كان يعرف يوماً بـ"خط التماس"، سمعت انتقادات لاذعة من السكان تناولت حكومات ما بعد الطائف التي أسست "دولة سوليدير"، وأنشأت "جمهورية النورماندي"، وتركت آثار الحرب تسكن طريق صيدا القديمة، فالأبنية المنخورة بالرصاص والمدافع لا تزال شاهدة على الاهمال المزمن، لمنطقة تعيش تحت خط الفقر، ويشدها العوز الى دولة تكبر على حرمان الآخرين من حقوق المواطنية في الحصول على التيار الكهربائي على سبيل المثال الذي اعادته مؤسسة كهرباء، كما انتقدوا الاتهامات التي اطلقتها بعض وسائل الاعلام عن هجوم أهل الشياح على عين الرمانة.
رئيس بلدية الشياح ادمون غاريوس التي تقع عين الرمانة ضمنها أكد لوسائل الاعلام ان لا أضرار في عين الرمانة ولا اعتداءات على أملاك الناس فيها، وكل ما تم تداوله في هذا الإطار لم يكون سوى إشاعات أسهمت في تأجيج الموقف وإرجاع صور من الماضي لا احد بحاجة إليها. وأكد عدم حصول تعديات على الممتلكات والسيّارات في عين الرمانة، وأن الجيش امسك بالوضع بسرعة، بعد حصول تجمّعات شعبية من المنطقتين، مؤكداً ان الجيش انتشر على كل سطوح الابنية المشرفة وفي كلّ الطرقات.
مهما اختلفت الروايات بين منطقتين ومنطقين، فإن دم الفتيان والشباب الذي سال على الأرض، وسُفك أمام عدسات المصورين يُوجه اصابع الاتهام الى أكثر من جهة، وأطلق العنان لعاصفة لن تهدأ إلا بكشف الحقيقة.
قاسم متيرك
الانتقاد/ العدد1252 ـ 1 شباط/ فبراير 2008

2008-02-01