ارشيف من : 2005-2008
شهداء مار مخايل ينثرون الحزن جنوباً وبقاعاً وفي الضاحية: مواكب شهداء الغدر تطالب بالاقتصاص من القتلة
كتبت ميساء شديد
على مدى الأيام الماضية كانوا هم الحدث، صورهم، مشاهد الأمهات الثكلى والآباء المفجوعين والإخوة والأخوات الغاضبين والأطفال اليتامى، اخترقت العقول والقلوب وحلّت فيها، وباتت حديث الناس الذين فجعوا من هول ما رأوا، شبابهم وفتيانهم يُقتلون من دون ذنب.
أحد سائقي التاكسي يقول: "أحمد حمزة كان ينسق مع الجيش، مش حرام يُقتل"! ويجيبه أحد الركاب: "ومش حرام مصطفى أمهز، كان يسعف الجرحى"! وتنسحب كلمات الأسى والحزن على محمود حايك ويوسف شقير وأحمد العجوز ومحمود منصور وجهاد منذر.. إنهم شهداء مجزرة مار مخايل، مجزرة ارتكبت ولا من عدوان إسرائيلي على لبنان!!
الضاحية الجنوبية وقرى الجنوب والبقاع تشاركت الحزن ولبست الأسود حداداً، ومنها انطلقت مواكب تشييع الشهداء إلى مثواهم الاخير وسط الصور والمشاهد التالية:
في الضاحية الجنوبية كان الموعد مع تشييع الشهداء أحمد حمزة وأحمد العجوز ويوسف شقير.. حمزة هو اول شهيد سقط يوم الاحد الاسود، كان ضمن لجنة الارتباط في حركة أمل المكلفة التنسيق مع الجيش اللبناني.. مار مخايل لم تكن وجهته يوم الأحد الماضي كما لم تكن عودته محمولاً مشهداً تنتظره الوالدة والوالد الذي أصابه المرض في قلبه ليأتي موت ولده ويزيد في القلب ألماً.
سبعة عشر عاماً هو عمر الشهيد أحمد العجوز، رحيله لا يزال مبكراً بالنسبة الى والده:
"بكير يا بيي".. يقولها الوالد المفجوع، يملي عينيه من ولده المسجى في براد المستشفى، يريد أن يشبع ناظريه من فلذة كبده قبيل الوداع الأخير.. من شاهده قرأ في عينيه أسئلة كثيرة، ولمس ضياعاً أمام هول المصيبة: "تقبرني يا بيي".. قالها وهو يعلم أن ساعات فقط تفصله عن إيداع جسد أحمد الطري في مدافن روضة الشهيدين.
هناك في روضة الشهيدين ووري جثمانا حمزة والعجوز في الثرى، بعد ان انطلق موكب تشييعهما من امام منزلي ذويهما تواكبهما أصوات المشيعين "بأمان الله يا حبيب الله"، "بأمان الله يا شهيد الله". وما ان دخل النعشان الى المقبرة حتى علا الصراخ والنحيب وصوت أخيه يودعه بكلمات أخيرة "ما تخاف يا خيي.. بدي آخذ بتارك.. والله ولو كان راس اللي قتلك بالسما".
تشييع الشهيدين حمزة والعجوز شارك فيه لفيف من العلماء ووفود من السياسيين والنواب، وألقى رئيس المكتب السياسي في حركة أمل جميل حايك كلمة طالب فيها الاجهزة الامنية والقوى الامنية بتحقيق سريع لأننا نريد الحقيقة الكاملة. متسائلاً: "لم محاولة التطاول؟ لم اتهام الشرفاء بأنهم يريدون العبث بالأمن؟ ونحن نسعى دائما الى تثبيت السلم الاهلي في لبنان". وأضاف حايك متوجهاً الى "الفريق الآخر": "أما الجيش اللبناني فأنتم من أعدم ضباطه وحاول تهميش الجيش عبر موازنات ضعيفة كي تجعلوه يتسول الأمن، اما نحن فنحن من خاض الحروب دفاعاً عن الامن وعن الجيش من اجل ان يكون الامن على الاراضي اللبنانية كافة، واليوم تريدون ان تعطوا الدروس بالولاء للوطن"! وقال: "الفرق بيننا وبينكم انكم تريدون استخدام الجيش عصا لتتحكموا برقاب الناس، ونحن نعتبره حدود الوطن، ونحن العصا والطمأنينة والجهد المبذول من اجل الاستقرار في لبنان". وقال حايك: "شهداؤنا هم من دافع عن العرض وعن الوطن وعن كرامة الوطن، قاتلوا اعداء لبنان والتقسيميين، لكننا نبحث بمعاجم اللغة لنرى لاحيائكم صفة فلم نجد أي صفة".
يوسف.. السفر الاخير
وإلى الشهيدين أحمد حمزة وأحمد العجوز انضم الشهيد يوسف شقير في مدافن روضة الشهيدين.. كان يوسف يتهيأ للسفر إلى الخارج، ربما أرادت أمه أن يظل إلى جانبها كما كل الأمهات اللواتي لا يتحملن غربة أبنائهن، لكنها أرادته ضاحكاً باسماً متحدثاً إليها وحياً يرزق، وليس جثماناً في قبر تزوره باكية منتحبة.
من منزله في حارة حاريك الى مسجد الإمامين الحسنين (ع) حيث صلى على جثمانه آية الله السيد محمد حسين فضل الله، ليذهب به أحباؤه في موكب الى روضة الشهيدين ويودعوه ترابها في الوداع الأخير.
مصطفى.. يعود الى الهرمل
ومن مستشفى الرسول الاعظم (ص) الى منزله في حي الجاموس في الضاحية الجنوبية حيث الوداع الاخير لأحبائه وجيرانه، كانت الرحلة الاخيرة للشهيد مصطفى علي أمهز (دماء) ابن الـ32 ربيعاً باتجاه الهرمل.
الشهيد أمهز مسعف في الهيئة الصحية الإسلامية، تابع الجميع اندفاعته ونخوته أثناء محاولته إنقاذ عنصر الدفاع المدني في الإسعاف الشعبي جهاد منذر الذي لحق بقافلة الشهداء بعد يومين من إصابته بجروح بليغة.
أمهز الذي كرس أكثر من نصف حياته ملبياً نداء الواجب الانساني، لا سيما خلال العدوان الإسرائيلي الاخير على لبنان، لم يحكِ يوماً عن بطولاته في إنقاذ حياة الكثير من الناس، لكن دموع رفاقه وزملائه في الهيئة الصحية كانت شاهداً على سيرته وتفانيه.. فـ33 يوماً يسعف المجاهدين الجرحى في المقاومة الاسلامية ممن أصيبوا في المواجهات مع العدو.
محمد (12 سنة) وساجد (8 سنوات) ولدا مصطفى، لا يزالان يافعين، قد يفهم الولد في هذا العمر أن والده قضى في غارة إسرائيلية لا تلقي بالاً لسيارة إسعاف أو بذلة مسعف، ولكن ما حصل يوم الأحد في منطقة مار مخايل سيظل مشهداً عصياً على الفهم لدى محمد وساجد.
تقدم موكب المشيعين في الهرمل النائبان جمال الطقش وعلي المقداد ولفيف من العلماء وممثلون عن الأحزاب والقوى الوطنية والاسلامية وحشد من أبناء عشائر وعائلات المنطقة. وألقى مسؤول منطقة البقاع في حزب الله النائب السابق محمد ياغي كلمة أكد فيها "ان العدو الصهيوني لم يستطع أن ينال من جسد مصطفى أمهز خلال شهور الحرب، الى أن نالت منه هذه الطغمة الحاكمة، هؤلاء الذين يتحملون المسؤولية كاملة عما حصل". وقال: "من الواضح لدى كل أبناء شعبنا اللبناني اننا مستهدفون في وجودنا ولقمة العيش والمجازر تلحق بنا من جسر المطار الى حي السلم الى مار مخايل"، معتبراً "ان السلطة تكيل بمكيالين، فعندما استعملت خراطيم المياه في مكان آخر قامت الدنيا ولم تقعد".
أضاف ياغي: "ان من يريد أن يصل الى مواقع على أجسادنا واهم جدا، ونعرف كيف نواجه كل مجرم، والبلد لن نقبل أن يحكمه هؤلاء، وإذا كانوا يريدون تجهيل القاتل فلن يمر ذلك ونحن نعرف من أطلق النار".. مؤكداً "نحن حفظنا الوطن بدماء المقاومة الوطنية والاسلامية، والذي يحفظ الوطن على بقائه ووجوده ليبقى بقعة عيش مشترك وتوافق بين أبنائه أحرص على وحدته ومستقبله".
وحمّل ياغي الطغمة في السرايا المسؤولية قائلاً: "لن نتخلى عن المواقف الوطنية التي تريد الخير للبلد وأهله، ونحذر من سياسة التمييز في التعاطي بين المناطق". مستغربا "كيف يقتلون ويقيمون علينا الحداد"؟! وقال: "عليكم أن تتعاطوا مع الشعب اللبناني بسواسية".
محمود في التراب الذي أحب
محمود.. كان كل من يعرفه ينتظر أن يأتي خبره شهادته في المواجهات مع العدو.. لكن أهل بلدته حداثا انتظروه هذه المرة عائداً من الضاحية ببذلة الشهادة.. عريساً يزفونه وينثرون على موكبه الورد والأرز.. ويودعونه تراب عامل الذي أحبه.
بلدة حداثا في قضاء بنت جبيل كانت المحطة الأخيرة في موكب تشييع الشهيد محمود منصور الذي استشهد أثناء قيامه بواجبه التنظيمي كفرد من أفراد لجان الانضباط التي حاولت جاهدة ضبط التظاهرة وإجلاءها. ومن مستشفى بهمن إلى منزل العائلة في مارون مسك رافقت النعش الجماهير الغفيرة.. أمام سيارة الهيئة الصحية سار شباب حزب الله حاملين معهم صورة الشهيد.. آيات من القرآن الكريم تتلى يرافقها نشيد الوداع "بأمان الله يا شهيد الله".. وتوجه الموكب الى حداثا حيث جاب شوارع البلدة وسط موجة من الغضب والحزن.
وتحدث في التشييع عضو المجلس السياسي في حزب الله الشيخ خضر نور الدين الذي قال: "ان لصبر جمهورنا حدوداً"، محذراً "من مغبة الاستمرار في تجاهل مطالب الناس في تحقيق عادل يكشف الفاعلين ليس كما حدث في تحقيق أحداث الجامعة العربية". وتوجه نور الدين الى الجيش اللبناني طالباً منه ان يكون "الى جانب الشعب لا الى جانب حفنة من السياسيين المأجورين"، متسائلا عن سبب الإقدام على "استعراضات للقوة في مكان وغياب هذه الاستعراضات عن اماكن أخرى! وهل هناك مناطق راقية وأخرى غير ذلك"؟ وأشار نور الدين الى ان لبنان "في مهب الريح بفعل السنيورة وأفعاله، وعلينا ان نقف في مواجهتهم ولن نسمح بأخذ لبنان الى مكان يريدونه هم ضمن المشروع الاميركي".
عدلون فتاها عاد اليها
عاد محمود هذه المرة الى عدلون ولن يغادرها.. لحق به أترابه يودعونه ويغسلون جسده الندي بدموعهم.. هكذا انضمت عدلون إلى الضاحية والهرمل وحداثا، وعلى وقع زغاريد النسوة وزخات الأرز والورد والعطر وصلها ابنها محمود حايك (16 عاماً) جثماناً اخترقته رصاصات غادرة في أحداث مار مخايل.. هناك كان محمود برفقة صديقه الشهيد يوسف شقير الذي أصيب أولا وهوى على الأرض، ولدى محاولته مساعدة يوسف على النهوض سقط فوقه بعد إصابته برصاصتين في القلب والصدر، فاستشهد هو أيضاً".
خرج أهالي عدلون إلى مدخل البلدة وساحتها لاستقباله وزفه عريساً الى مثواه الأخير.. وقبل أن يوارى في الثرى عرج محمود على منزل ذويه حيث كان في استقباله والد مفجوع
ووالدة ثكلى مصدومة صرخت ألماً ووجعاً حاملة صورة وليدها، ودارت فيها على النسوة تنتحب وتقول: "زفوا العريس.. زغردوا للعريس".
ومن منزل العائلة نقل النعش إلى المسجد حيث أمّ إمام البلدة الشيخ حسن دبوس الصلاة على روحه، وأقيم مجلس عزاء بالمناسبة، ثم شيع حايك بحضور رئيس البلدية الدكتور حمزة عبود وفعاليات عدلون والمسؤولين المحليين من حركة أمل وحزب الله في البلدة، وحشد شعبي كبير من البلدة ومن القرى المجاورة.
جهاد.. المهمة الاخيرة
بعد يومين على جريمة مار مخايل التحق جهاد منذر عنصر الدفاع المدني في الإسعاف الشعبي اللبناني بركب الشهداء، حيث لم يتحمل جسده الجراح التي أصيب بها، لترتفع حصيلة ضحايا ذلك اليوم "الأسود" إلى سبعة شهداء وعشرات الجرحى. وقد أم الصلاة على جثمان الشهيد الشيخ أحمد قبلان قبل أن يوارى الثرى في جبانة الشياح. وشارك في مراسم التشييع رئيس المؤتمر الشعبي اللبناني كمال شاتيلا وممثلون لحزب الله وحركة أمل وشخصيات وفعاليات المنطقة.
من ارتكب مجزرة مار مخايل؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومن المسؤول؟ أسئلة كثيرة والإجابة عنها رهن تحقيق قيل إنه بدأ.. وعسى أن ينتهي.. وحتى ذلك الحين حقيقة واحدة لا مفر منها ستظل تؤرق اللبنانيين وتقض مضاجعهم، وهي أن سبعة شبان بعمر الورد قضوا حتفهم ظلماً وأريق دمهم غيلة.
الانتقاد/ العدد1252 ـ 1 شباط/ فبراير 2008