ارشيف من : 2005-2008
بين فينوغراد والتفاهم... هل من صلة؟
كتبت ليلى نقولا الرحباني
مرت سنتان على توقيع وثيقة التفاهم، وما زالت الهجمات الشرسة عليها تتفاعل من قبل قوى الموالاة. فمنهم من يصفها بأنها خارج الطبيعة، ومنهم من يعتبر انها ولدت ميتة، ومنهم من يصفها بأنها سورية وايرانية، الخ...
سنفترض بأن ورقة التفاهم هذه هي الخطيئة المميتة التي ارتكبها العاصيان، التيار الوطني الحر وحزب الله، وقد ارتكبا فيها معصية، فما كانت نتائج هذه المعصية، وهل لو لم توجد هذه الورقة كانت النتائج السياسية وحياة الوطن أفضل أو أسوأ؟ هل كانت نتائج تقرير فينوغراد هي ذاتها؟
بداية لن نتكلم عن التواصل بين اهالي المناطق المسيحية والاسلامية وخاصة في الجنوب، فقد بات من المسلّمات ـ وباعتراف الجميع ـ ان هذه الورقة أشاعت جواً من الالفة والتعاطف والتقارب بين الطوائف، وخاصة في المناطق المختلطة، وأزالت الكثير من الحواجز ومتاريس الحرب الاهلية النفسية التي زادت ارتفاعاً بعد سِلم الطائف المزيف.
خلال عدوان تموز على لبنان، وبحسب الاحصاءات نزح 85% من الشيعة من منازلهم ولجأوا الى المناطق اللبنانية الاخرى، ومنها المناطق المسيحية، الى أهلهم وأخوتهم فحلّوا بينهم ضيوفاً أعزاء ولم يكونوا قط نازحين لاجئين. وهكذا جعل "التفاهم" الموقع بين حزب الله والتيار الوطني الحر اللبنانيين يبنون وحدتهم الوطنيّة الحقيقية بالالم والدم.
لقد ساهم وجود "المتفاهمين" بالقرب من بعضهم البعض في اكتشاف الآخر عن قرب، اكتشافه كما هو بطيبته وايمانه واخلاصه للقضية الوطنية الكبرى، ولم يعد ينظر اي منهما الى الآخر بمفاهيم "نحن" و"هم"، وانهارت نظرية "الآخرون هم الجحيم" التي كان يرددها "سارتر" دائماً في تعبيره عن رؤيته الوجودية للغير. لقد أعطى "المتفاهمون" بعضهم البعض خلال الحرب دعماً معنوياً تكرّست من خلاله نظرية المواطنية الحقيقية والانصهار الوطني، بعيداً عن نظريات العيش المشترك التي استهلكت ولاكتها الالسن في مراحل سابقة، وانتهت صلاحية استعمالها.
راهن البعض في بداية العدوان على انفجار حرب أهلية مذهبية، وعلى فتنة يقودها مدّعو الخوف "على الوجود المسيحي/ السني من المد الشيعي"، وراهنوا على أن يأتي العدو من أمامنا وتكون ملاقاة له من ورائنا، فنسقط، ويتم تنفيذ مشروع الشرق الاوسط الكبير على دمائنا ودماء أطفالنا. لكن "المتفاهمين" أعلنوا منذ اليوم الاول، متسلحين بصلابة الايمان بالقضية، وبعمق التضحية ووجدانية الالم قائلين: "المأساة التي نعيشها اليوم سنخرج منها منتصرين بإذن الله، لان ضميرنا حر، وبريء من الدم، والتضحية تطهرنا اكثر، وتجعلنا اقوى على مواجهة العذاب والاخطار بقوة المؤمن الذي لا يخاف الطائرة، ولا الدبابة، ولا البارجة البحرية".
وهكذا اتحد الشعب اللبناني في وجه العدوان، وصمد صموداً اسطورياً حقق من خلاله نصراً استراتيجياً هاماً سوف يكون لتداعياته تأثيرات قد تغير وجه المنطقة لخمسين سنة قادمة.
واذا أردنا ان نحلل انتصار تموز التاريخي من وجهة نظر علمية، فلا يمكننا ان نغفل أيا من المؤثرات الداخلية والخارجية بالنسبة لكل من الطرفين، فنرى ان ميزان القوى الداخلي والخارجي كان في بداية العدوان يميل لمصلحة "اسرائيل"، سواء من خلال القوة العسكرية أو التكنولوجية، او الدعم الدولي، أو الانسجام الداخلي بين مكونات المجتمع الاسرائيلي، وهو ما يفقده المجتمع اللبناني منذ زمن. وهكذا تكون الحرب شُنّت على لبنان في بيئة استراتيجية مؤاتية ـ نوعاً ما ـ لـ"اسرائيل" التي ارادت ان تقوم بعملية جراحية حاسمة تقضي خلالها على حزب الله. لكن استراتيجيو الحرب الاسرائيليين لم يقدّروا الامور التالية:
- أولاً: ان مجموعة صغيرة منظمة تنظيماً جيداً، وتقاتل بناء على عقيدة ايمانية صلبة (بالاضافة الى الكثير من العوامل التي لا مجال لذكرها الآن) تستطيع ان تقهر التكنولوجيا وتهزم أقوى جيش في المنطقة.
- ثانياً: لم يقدّر معدّو العدوان ان تركيبة المجتمع اللبناني كانت قد بدأت تتغير منذ 6 شباط 2006 وما تبعها من احداث. فلأول مرة في تاريخ لبنان يكون رد فعل اللبنانيين ممتازاً الى درجة الكمال مع بعض الاستثناءات بالتأكيد.
عادة تكون ردود فعل الإنسان أمام الأحداث نوعين:
- النوع الاول مصلحي نفعي: يتم بعد ان يكون الانسان قد درس وخطط. فيه ينظر الإنسان الى المصلحة ويحدد البدائل، ويقوّم حسابات الربح والخسارة ثم يقوم برد الفعل المناسب له ولمصلحته.
- النوع الثاني وجودي: هذا النوع لا يحتاج الى تخطيط ولا الى دراسة، بل يتخذه الانسان بكل بديهية وبدون أن يقوّم حسابات الربح والخسارة... وقضية الدفاع عن الوطن هي قضية من هذا النوع لا تحتاج الى تخطيط، فنحن ندافع عن الوطن وحتى لو لم نكن متأكدين من الربح او النصر. إنّ مجرد التفكير والحيرة بين أن ندافع أو لا ندافع، لأمر في منتهى التنكر للواجب الوطني المقدس.
وهكذا اختار اللبنانيون خلال عدوان تموز، الخيار الوجودي الصائب ولم يفكروا بمصلحة سياسية شخصية أو آنية، بل انطلقوا في الدفاع عن الوطن بما تيسر وبما أوتوا من امكانيات.
لقد انتصر لبنان على "اسرائيل" في حرب تموز، وهذا ما اعترف به فينوغراد رسمياً لأن اللبنانيين قاتلوا بوحدة وتفاهم وصبر وايمان، بينما الاسرائيليون دُفعوا الى القتال بيأس محشو بالحقد، وهذا لا يؤدي الى انتصار، بل يؤدي الى انهيار فاعله، فالحقد يفجر صاحبه قبل ان يفجر الخصم.
ونعود الى السؤال: ماذا لو لم يكن "التفاهم"؟ ما هو البديل؟
لن نقول ان البديل هو فقط نموذج "غزوة الاشرفية"، وخطوط التماس، وأخطبوط الحقد الطائفي والمذهبي، وانقسام مجتمعي وتفتت يسمح للعدو بالتغلغل مستغلاً الشحن المذهبي والانقسامات، واحداث مار مخايل... بل ان البديل هو كل ذلك مجتمعاً.
قال احد الموالين مهاجماً: "لقد احترقت ورقة التفاهم"، ونحن نقول قد تكون الورقة احترقت، ولِمَ لا؟ فلتحترق... ان زوجين سعيدين يربيان عائلة ناجحة على الايمان والمواطنية والعدل لا ينظران كل يوم الى ورقة الزواج التي وقّعاها لكي يستخرجا منها كيف يعيشان، وقد ينسيان اين وضعاها؟
ايها الموالون: لقد تحولت ورقة التفاهم أسلوب حياة ومبادئ عيش، ولم نعد بحاجة للنظر في نصوصها لتكون لنا قاموساً يرشدنا في بناء الوطن... انها أكبر من ورقة، اكبر من حزبين، اكبر من طائفتين، انها شعب عظيم.
الانتقاد/ العدد 1253 ـ 8 شباط/ فبراير 2008