عشرة أيام على جريمة مار مخايل، المشهد في منازل ذوي الشهداء ليس نفسه، بيوت خلت إلا من بعض الأقارب والمعزين، وضجت في المقابل بالكثير من الذكريات الممزوجة بالدموع والآلام، ذكريات الطفل الذي كان يركض ويلعب، والفتى الذي أنهى دراسته، والشاب الذي بدأ عمله ليساعد ذويه، والآخر الذي كان قرر الهجرة بحثاً عن وظيفة، والشقيق الذي كان يقضي أوقاتاً يتحدث فيها الى شقيقته يطمئن اليها وتشكي اليه همومها، والوالد الحنون والعطوف، والمسعف الذي نذر حياته لأداء واجبه الإنساني.
رحلوا وخلفوا وراءهم ذكريات كثيرة وسؤالاً كبيراً: "لماذا؟".
ذوو الشهداء بانتظار نتائج التحقيق والكشف عن المجرمين ومعاقبتهم، الحقيقة التي ينتظرونها هي تلك المجردة والعادلة والشفافة والبعيدة عن أي تسييس، الحقيقة التي قطعاً لن تعيد أبناءهم، لكنها ستقي أبناء آخرين مصيراً مشابهاً.
مارون مسك كانت وجهتنا، دليلنا إلى منزل الشهيد محمود منصور كانت صورة عملاقة للشهيد كتب عليها: "في ظل حكومة الغدر والعمالة استشهد محمود عبد الأمير منصور".
"ضايعين من دون محمود" تقولها والدة الشهيد بحرقة وتضيف: "إنه أكبر إخوته ونحن خسرناه، لكنه مات ظلماً، كل ما أراده هو ضبط الوضع بالتنسيق مع الجيش، لم يكن يحمل سلاحاً ولا حتى عصا، ونحن لا نريد الوقوف لا في وجه الجيش ولا أي أحد".
مصيبتها لم تخرجها عن طورها، لم تجعلها تطلق الاتهامات جزافاً، كل ما تريده اليوم والدة الشهيد منصور "التحقيق النزيه الذي يقتص من القتلة فقط، وليس العشوائي".. "نحن لا نريد ان نقف في وجه الجيش، المظلوم مظلوم والبريء بريء، والقاتل فقط هو من يجب أن يدفع الثمن". وبرغم أن انتظار نتائج التحقيق أمر لا بد منه، إلا أن هاجساً كبيراً يرافق هذا الانتظار، ذلك الذي يعيشه أهالي الشهداء جميعهم، "أن يكون مصير التحقيق في جريمة مار مخايل شبيهاً بمصير التحقيقات في مجزرة جسر المطار وحي السلم والرمل العالي".
هذا الهاجس وإن كان يفرض حضوره بقوة، إلا أنه لا يلغي الأمل لا سيما لدى عبد الأمير منصور والد الشهيد محمود، فأمله ليس نابعاً بالتأكيد من "حكومة الغدر والعمالة"، بل لثقته "بمصداقية وإخلاص قيادتنا الحكيمة واهتمامها بدماء الشهداء"، وليقينه "بأنها تتابع المجريات وستكشف القتلة، ولذلك نحن سلمنا أمرنا لها"، على ما يؤكد والد الشهيد الذي لا يكتفي بالمطالبة بالحقيقة والعدالة، فبالنسبة إليه "ما حصل يوم الأحد الأسود يتطلب إجابة واضحة تبرر إطلاق النار بهذه الطريقة على المتظاهرين".
هي "فترة وجيزة يمكننا انتظارها لينتهي التحقيق"، يقول والد الشهيد مضيفاً: "إذا كانت نتيجته إيجابية فهذا جيد، وإذا كانت سلبية فنحن نترك المجال لأحباء الشهيد لكي يقرروا ما يريدون فعله". اما الحل بالنسبة إليه فهو لا يكمن فقط في ما يحكى عن إمكانية إقالة ضباط او عسكريين، بل "في إنزال العقوبات التي يستحقها المجرمون وفي "تعزيل" المؤسسة العسكرية من الخونة والمجرمين والمندسين لكي ننصرف الى محاربة العدو الإسرائيلي وتحرير ما تبقى من الأرض".
شهيد آخر وألم آخر
ومن منزل الشهيد منصور إلى منزل ذوي الشهيد أحمد العجوز.. في البداية لم يكن يوجد من عائلة الشهيد سوى "حلا" شقيقته الصغرى التي أخبرتنا أن والدها ذهب ليحضر والدتها من المستشفى حيث خضعت لعملية جراحية في رجلها، ففي ذلك اليوم المشؤوم وبعيد تبلغها الخبر، سمعت صوت ولدها أحمد في ردهة المنزل فركضت مسرعة إليه، وقعت على الأرض وكسرت رجلها.. أحمد كان في تلك اللحظة قد سقط برصاص الغدر ولم يكن الا طيفه قد أتى مودعاً.
"حلا" لا تزال غير مصدقة، هي تشعر "ان أحمد مسافر وعاجلاً ام آجلاً سيطرق باب المنزل ويعود".. ساعات وأيام كانت تمضيها مع شقيقها، كان الأقرب إليها وكانت الأقرب إليه، تقول والغصة تخنقها: "الحرقة عم تزيد يوم بعد يوم". تخبرنا أن أحمد كان غادر المنزل وودع العائلة متجهاً الى المطار، إلا أن خطأ ما في أوراقه جعله يعود أدراجه، فقرر أن يعمل خلال شهرين، وهي المدة التي تحتاجها عملية تصحيح الخطأ، ولم يكن مضى على عمله في مطعم "KFC" سوى ثلاثة أيام حين أصابته رصاصة متفجرة أثناء عودته من العمل.
وأثناء حديثنا الى "حلا" دخل والد أحمد، إنه الرجل الذي كان يندب ولده الموجود في براد إحدى المستشفيات، صورته لا تزال مطبوعة في الأذهان، يخبرنا عن نمط حياة غير طبيعي بعد رحيل أحمد، "حتى اللحظة أشعر بأنه سيأتي وأسمع صوته، فأفتش عنه في كل مكان. بالأمس كان ابن عمه وابني يأكلان، فتح الباب فقلت عال إجا أحمد الأكل بعدو سخن.. نظرت الى حيث الباب لكن لم أجده". قال هذه الكلمات وخنقته العبرة بل العبرات.. دموع كافية لتروي ما يختلج في قلب هذا الرجل من وجع.
والد أحمد كما غيره من ذوي الشهداء ينتظر التحقيق "ليتأكد أن الجاني سينال عقابه الذي يستحقه، كي لا يتكرر المشهد نفسه، وكي لا يحترق قلب أم وأب آخرين". ويضيف: "ان الثقة كبيرة بالقيادات التي تتابع التحقيق، لا سيما أن الامور تبدو جدية وإيجابية كما يقولون. لكن اذا رأينا أن مصير التحقيق سيكون كما في الأحداث الماضية، فأنا لست أدري ماذا سأفعل، أنا انسان ووالد، ولن أتحمل فكرة أن يكون ابني تحت التراب والجاني حراً طليق".. محملاً مسؤولية رد فعل آباء وأمهات الشهداء للذين سيتقاعسون في التحقيق.
ويقول علي العجوز: "هم لديهم خدم، ربما لا يربون ولدهم، وقد لا يرونه غالباً، وفي أحيان كثيرة قد يضعونه في إحدى المدارس الداخلية ويرسلونه الى فرنسا.. أما نحن فننام تحت رجلي ولدنا حين يقول "آخ".. يتابع: "منطعميه ومنضل جوعانين، مندفيه ومنضل بردانين، منعيش معه سنة بعد أخرى حتى يصبح شاباً، وفجأة يأتي أحدهم ويقول: ستوب بدي شلحك ابنك".
جراح.. لم تندمل
جراح ذوي الشهداء أكبر وأعمق من ان تعبر عنها الكلمات، وهناك جراح من نوع آخر، ترى بالعين المجردة وستظل شاهدة على فداحة ما حصل يوم 27 كانون الثاني 2008.
في مستشفى بهمن لا يزال كل من حسين بزي وحسين كمال الدين طريحي الفراش، الأول أصيب برصاص متفجر في رجله وهو خضع حتى اليوم لعمليتين وتنتظره ثلاث عمليات أخرى، والثاني كانت اصابته بالرصاص المتفجر أيضاً في بطنه وأمعائه.
بالنسبة الى مستقبل حسين بزي ابن (22 عاماً)، فهو يبدو غير واضح حتى الآن، فالأطباء أبلغوه أنه يحتاج إلى سنة ونصف السنة على الأقل لكي يستأنف حياته بشكل طبيعي.. يتمنى حسين
"أن لا تنام قضيتهم كما غيرها، وأن لا يتم السكوت عنها". معبراً بحسرة عما أصابه من "رصاص الجيش الذي خدم فيه والده 23 سنة".
وتتساءل جدة حسين غاضبة: "أليس من حق حفيدي أن يعيش كغيره من الشبان، ان يعمل ويتزوج ويكوّن عائلة"؟
غضب تتشاركه ووالدة الجريح حسين كمال الدين، المريضة في قلبها والتي تمضي وقتها الى جانب ولدها ومعيلها.. كان حسين يعمل في الخضر ليعيل والدته، الغصة تخنقه لدى الحديث عن أوجاعه وجراحه، هو الآخر ينتظر التحقيق ويحمل مسؤولية ما تعرض له لما يسمى "دولة".
العبرة..
في 13 أيلول 1993 خرج متظاهرون من الضاحية الجنوبية للتنديد باتفاق أوسلو، ولدى وصولهم الى جسر المطار أُطلقت نيران غزيرة باتجاههم، فسقط 9 شهداء وأصيب العشرات، وحتى اليوم لم يكشف التحقيق ما حدث.
عام 2004 عبر متظاهرون فقراء عن احتجاجهم على ارتفاع أسعار المحروقات، فأُسكتوا برصاصات قاتلة واستشهد خمسة منهم، ولم يكشف أحد القتلة والجناة.
التحقيقات في أحداث الرمل العالي تشهد ركوداً شبيهاً فيما أطفال أبرياء قُتلوا بدم بارد.
وفي 27 كانون الثاني 2008 تظاهرة عفوية على انقطاع التيار الكهربائي انتهت باستشهاد 7 شبان، التحقيقات مستمرة ومتواصلة، لا نتائج نهائية حتى اللحظة، ولكن هل فعلاً سيكون هناك من نتائج نهائية، أم أن أحداث مار مخايل ستنضم الى سابقاتها من أحداث شبيهة شهدتها الضاحية الجنوبية؟
"العبرة في الخواتيم".
ميساء شديد
الانتقاد/ العدد1253 ـ 8 شباط/ فبراير 2008