ارشيف من : 2005-2008
وثيقة التفاهم المقدمات والنتائج
عندما خرجت وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر إلى النور قبل عامين بالضبط، قال البعض إنها وثيقة "المقصيين"، وزاد البعض الآخر بأنها وثيقة موقّتة ستبطلها تطورات الأحداث المتسارعة أو يمزقها تفرق السبل وتباعد الدروب بين الطرفين الموقعين عليها.
ولا ريب أن ثمة من ذهب إلى أبعد من ذلك في معرض رهانه على النيل من أهميتها، عندما قال إنها قاربت مواضيع وقضايا، الخلاف عليها جوهري، وجذور التباين عليها بين المجموعات اللبنانية تضرب عميقة إلى بدايات نشوء الكيان اللبناني نفسه قبل نيف وثمانين عاماً، وهو تباين بنيوي، دفع حتى أبرز المنظرين لقيامه هذا الكيان، وهو ميشال شيحا، إلى ابداء التشاؤم سلفاً، والى التكهن مسبقاً بالعثرات والثغرات التي ستعيق استمرار هذا الكيان، عندما قال صراحة قبل عقود "ان نفيين لا يصنعان أمة ولا يقيمان بنيان دولة" تكتب لها الديمومة والحياة.
ولم يخب ظن هذا الرجل، فتاريخ لبنان المعاصر هو تاريخ انقسامات وتصارعات باردة حيناً ومنفجرة أحياناً حول أصل وجود هذا الكيان وامتداداً حتى هويته، وتوجهاته، ومروراً بالتنازع حول موقعه من صراعات المنطقة المستعصية وفي مقدمها الصراع العربي ـ الاسرائيلي.
وعندما كانت تنعقد التسويات بفعل ضغوط الداخل وثقل الخارج، كانت هذه التسويات عبارة عن جروح تختم على زغل، أو نموذجاً للتسويات التي تحمل في طياتها بذور انفجارها الآتي ولا ريب بين عشية وضحاها، المحطات والشواهد على هذا الاستنتاج أكثر من أن تحصى وتعد، وخصوصاً أنه لم يمر عليها الزمن.
ولحظة خرج الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله وزعيم التيار النائب العماد ميشال عون إلى أمام عدسات الإعلام في قاعة كنيسة مار مخايل التي ينطوي موقعها واسمها على تكثيف رمزي يدرك كنهه القاصي والداني، ليزفا إلى اللبنانيين نبأ التوقيع على وثيقة التفاهم، كان الدخان لا يزال يرتفع من منطقة الأشرفية، من جراء نيران أحداث بالغة المأساوية سببها الأساس، هو هذا التباين الكامن والمضمر بين بعض المجموعات اللبنانية حيال المجموعات الأخرى فصارت فرصة الاحتجاج على حدث خارجي طارئ "غزوة" لمنطقة تقطنها مجموعة أخرى لا ذنب لها سوى أن غالبية قاطنيها ينتمون إلى ديانة معينة.
ولحظة إبرام وثيقة التفاهم، كانت رُحى التناقضات حول السلطة والحكم في لبنان، قد بدأت تطل بوجهها الكالح على الملأ، فقد شرعت المجموعة التي خالت أن وسادة الحكم قد ثنيت لها، وبارتكاب الجرم عينه الذي أدى في فترة من الفترات إلى نخر الهيكل اللبناني، ومن ثم تداعيه وانهياره، وهو جُرم الاستئثار بالسلطة والقبض على زمامها من جانب حفنة صغيرة وشريحة ضيقة ما لبثت أن ركبت المركب الخشن وسلكت المسلك الوعر وهو تحديد وجهة لبنان منفردة، وأخذه إلى مطارح ومساحات سياسية ستفضي حتماً إلى انكسار بنيانه الداخلي الهش، وتهافت معادلته السياسية الطرية.
كان واضحاً أن هذه المجموعة، تحاول جاهدة تكرار تجربة سبق وجربتها المجموعة التي وصلت إلى رأس هرم السلطة، على متن الدبابة الإسرائيلية بعد اجتياح عام 1982، غير ملتفتة إلى أن هذه التجربة المُرة كانت وبالاً على القائمين بها وعلى البلاد برمتها، وهي لم تلبث أصلاً إلا قليلاً، إذ سرعان ما اصطدمت بوقائع التاريخ الجغرافي العنيدة، فانهارت انهياراً مدوياً ومكلفاً.
صلوات تحاصر الشياطين
ما حصل في الشياح يوم الاحد الدامي وعلى الرغم مما اختزنه من ألم ووجع، كان "فرصة كبيرة" لمن اشتهى أن يفتح الجرح ويسترجع مشهداً ولىّ منذ زمن... أمكنه ـ عن سابق تصور وتصميم أو في لحظتها ـ أن يشغل كل الأدوات التي لا تعيد عرض الفيلم فحسب، بل تحوّله الى امر واقع.. وأن يقفز مباشرة الى قيادة الحرب المفترضة مستعيداً كل مفردات حروبه القديمة وصولاً الى تحديد محاور القتال وميدان حربه الجديدة..
.. خطوط تماس بين ابناء الحي الواحد رسمها بيان قوى السلطة ذلك المساء المشؤوم.. حتى ظن البعض أنه البيان رقم واحد لحربهم الجديدة.. صدم ذلك الكثيرين أكثر مما صدمهم أزيز الرصاص ومشهد الاجساد اليافعة تهوي على الاسفلت.. مشتهو القتل والدم لن يكتفوا بسبعة من فتياننا.. كان ذلك نذير شؤم!
كثيرون هالهم نعيق التصريحات المشؤومة التي تكشف عن النوايا السوداء كما هالهم مشهد الدم.. فهبوا يكسرون الحواجز المفتعلة ويعيدون نسج خيوط المحبة والوئام، ويحاصرون بالصلوات والتراتيل ورسائل السلام شرور الشياطين ويحرقون الفتنة باسم الله والوطن.. وبالدم المظلوم يعمّدون وثيقتهم التي كشفت الايام انها ليست تفاهماً، بل تلاحم مصيري لبناء وطن منيع في وجه كل الشياطين..
ألم تكن تلك هي رسالة كنيسة مار مخايل في 6 شباط 2006 ورسالة الكنيسة نفسها في قداس يوم الاحد الماضي، ومضمون ما حملته جولة وفد التيار الوطني الحر بين احياء عين الرمانة والشياح بعد احداث الاحد، وجوهر ما جاء في اللقاء التلفزيوني التاريخي بين الامين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله ورئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون..
انها رسالة الوطن في وجه القتلة والفتنويين وكل الشياطين.
أمير قانصوه
وبمعنى آخر، ارتكبت هذه الحفنة الحاكمة، المحظورين الأكبرين وهما الاستئثار التام بمقاليد السلطة والقبض على زمامها، والانخراط الأعمى في متاهات اللعبة الأميركية في المنطقة، متطوعة لتنكّب "أجندة" ادارة بوش الراغبة بتطويع كل من له اعتراض على سلوكها.
وهكذا، فإن يوم وقّع طرفا التفاهم على الوثيقة، كان القابضون على السلطة قد أعدوا العدة كاملة لانقلابهم المشهود، فهم تخلوا عن "التحالف الرباعي" وتحللوا تماماً من موجباته، وشرعوا ينفذون المخطط الأميركي بالنيل من سلاح المقاومة، وسد الدروب أمام حقها المنصوص عنه في البيان الوزاري لتحرير الأرض والأسرى، وهو أمر توج لاحقاً بهذه التغطية السياسية الكاملة المواصفات للحرب الاسرائيلية في تموز عام 2006، والتي نظّروا اليها على أنها المعبر الأساس لاستكمال انقلابهم الذي صنعوا له زوراً وبهتاناً عناوين وشعارات.
في كل تلك الأجواء والمناخات جاءت وثيقة التفاهم بين الحزب والتيار، جاءت بداية اعتراض نظري ومعارضة عملية على محاولات السلطة الرامية اضافة إلى تغيير هوية البلاد وتاريخها، تكريس نهج حكم لا يستقيم اطلاقاً مع العقد الاجتماعي الذي عُدّ في فترة من الفترات، أساس بنيان الكيان، وهو الديموقراطية التوافقية التي نصت عليها روحية اتفاق الطائف.
والتفاهم الذي استغرق الإعداد له شهوراً طويلة وجهوداً فكرية وسياسية طاولت أدق التفاصيل والرؤى أتى بين مجموعتين هما عملياً من خارج التقليد السياسي اللبناني، سواء منه ذاك الذي انوجد مع نشوء الكيان أو ذاك الذي شارك في لعبة السلطة بعد اتفاق الطائف، إلى جانب ذلك فإن التفاهم أتى بين إطارين سياسيين مشهود لهما بتقديم التضحيات الجسام، طبعاً كلّ من منظاره، في رحلة البحث عن وطن معافى وكامل السيادة، ولا يختزن في طياته بذور انفجاره كل عقد من السنين أو أقل.
ولا بد من الافصاح أيضاً عن حقيقة أن هذين التنظيمين اللذين وقّعا على وثيقة التفاهم، شهد كل منهما تحولات جذرية طاولت رؤى كل منهما للداخل اللبناني ولعلاقة هذا الكيان مع محيطه ومع الخارج، ولو أنصف المنصفون، لتيقنوا بأن هذين التنظيمين ربما هما الوحيدان اللذان امتلكا جرأة الاعلان عن طي أفكار، وتثبيت أخرى، بفعل رحلة جهادهما الطويلة لاعادة بناء البلاد والنهوض بها على أسس ومداميك متينة.
لذا فهما عندما شرعا في رحلة وضع مضمون وثيقة التفاهم اختارا أن يقاربا أكثر المواضيع والقضايا حساسية في تاريخ الاجتماع السياسي اللبناني، ووضعا لها الحلول الناجعة، وأرسيا لها أسس الحل الجذري مستقبلاً.
وكان هذا الفعل، انطلاقاً من الرغبة بالابتعاد عن صيغ التسويات المصلحية والنفعية الموقتة التي تتداعى هياكلها عادة أمام أول هبة ريح تأتيها من الداخل أو الخارج، والتجارب اللبنانية في هذا الميدان أكثر من أن تُعد، وليس آخرها تجربة المجموعة التي سرقت السلطة في غفلة من الزمن، مجموعة 14 شباط التي يوشك عقدها على الانفراط حيال أي تطور وتداعي واشنطن وسواها من العواصم الحاضنة لها، إلى رأب الصدع في داخلها وبالقوة حفاظاً على وحدة واهية.
ولم يعد جديداً القول إن تفاهماً ينعقد على نية الرغبة بتقديم إجابات بينة عن أسئلة وإشكالات أقلقت وجود الكيان اللبناني منذ نشوئه، وجعلته عرضة للاهتزاز والارتجاج والتداعي، وإن تفاهماً ينعقد على نية الابتعاد عن تسويات فوقية لا تساوي قيمتها قيمة الحبر الذي كتبت به، كان مقدراً له الصمود، فبرغم مروره بتجارب ومخاضات شتى ظل هذا التفاهم ثابتاً وعصياً.
وليس خافياً القول إن ثمة اغراءات جمة قدمت لأحد ركني هذا التفاهم وهو النائب العماد عون للتخلي عنه أو التحلل منه، ولكنه رفضها وضرب بها عرض الحائط، ولقد صار معروفاً التصريح العلني للنائب سعد الحريري الذي أعلن فيه أن مشكلتنا مع عون أنه يرفض الابتعاد عن "حزب الله".
كما ليس خافياً الاغراءات والضغوط التي مارستها الادارة الاميركية على أعلى مستوياتها لإجبار عون على الانقلاب على هذا التفاهم.
ولا يمكن لأحد أن ينسى للعماد عون صموده على التفاهم، لحظة شرعت اسرائيل بحربها المدمرة على لبنان، وهو الذي اعتبر نفسه لاحقاً شريكاً في الانتصار الذي حققته المقاومة في هذه الحرب، ولم يمر الزمن على الكلام الذي قاله النائب عون لموفد النظام الرسمي العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى وفحواه "إنكم قاتلتمونا في السابق لأننا لم نكن مع المقاومة ضد اسرائيل، وتقاتلوننا الآن لأننا انتمينا إلى خيار المقاومة".
أليس تفاهماً معداً للحياة والديمومة ذاك الذي يقول أحد ركنيه مثل هذا الكلام ويقول ركنه الثاني (السيد نصر الله) ان للعماد عون دَيناً في رقبتنا لن ننساه أبداً.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد1253 ـ 8 شباط/ فبراير 2008