ارشيف من : 2005-2008

خطـأ أم مـؤامـرة

خطـأ أم مـؤامـرة

المدنيين لمجرد أنهم غاضبون لألف سبب وسبب وليس هناك من يسمع شكواهم. كان من السهل احتواء هذا التحرك وضبطه في بيئة لم تُعرف بعدائها للجيش. هل ثمة خطأ كبير حصل في مكان ما أم أن جهة تدفع بالتوترات لتحضير المسرح السياسي لأشكال أكثر حدة من المواجهة؟ هل قرّر أحد من خارج لبنان أن يلعب لعبة حافة الهاوية لابتزاز الجهات الحريصة على السلم الأهلي. هل يُراد للجيش أن يتصرف كقوة ردع قامعة وليس كأداة حفاظ على الأمن ضمن المصالح والاعتبارات الوطنية.‏

تلك الأسئلة لن يكون من السهل الإجابة عليها قريباً لكن من الضروري أن يحصل تحقيق جدي لنكتشف عنواناً واحداً على الأقل: هل نحن أمام خطأ أم مؤامرة؟‏

على أي حال يجب أن نعترف بأن الأرض عندنا خصبة لضعف المسؤولية الوطنية، للأخطاء القاتلة وكذلك للمؤامرات.‏

لقد زرعت القوى السياسية الريح وها هي تحصد العاصفة. الشوارع المعبأة والمنقسمة أفلتت من تحت السيطرة. الأزمة المعيشية محرّض أساسي، لكن الخصم، دولة ونظام وحكومة وقوى سياسية أخرى. يختلط المطلب المعيشي فوراً بما هو أبعد منه. الجماهير تحتل الشوارع والساحات. تكسر. تخرب. تحرق. تمنع قوى الأمن من المحافظة على النظام. ما يحصل في لعبة الجماهير والشوارع لم يعد يحتاج إلى توقعات عن المسار اللاحق. الشائعات نفسها جزء من لعبة الحرب. لقد انزلق اللبنانيون إلى الفوضى إلى حيث الخطر الأكبر.‏

في مناسبات مختلفة، وخلال أيام معدودة، احتشدت جماهير تنتمي إلى قوى سياسية ومذهبية من طرفي الموالاة والمعارضة. ظهرت عراضة سلاح غير مسبوقة في جهة وقطع طرقات في جهة ثانية. كانت فئة تحتج على ما يتعرض له فريقها من مسلسل الاغتيالات الذي يستهدف رموزها وسلطتها، وكانت فئة تحتج على ما يلحق بها من تهميش وإقصاء. على أن الجمهور هو نفسه من أصول ريفية فقيرة منقسم حول خيارات قادته.‏

الشعارات التي انطلقت هنا وهناك والخطاب السياسي الذي رافق حركات الاحتجاج يطعن بصدقية الفريق الآخر وأهدافه ويوحي بأنه يمثل خطراً على وجوده. نحن نقف بين مطرقة الإرهاب وسندان السياسة الفاشلة. نحن نقف بين حركات جماهيرية لديها طاقة كبيرة على التدمير وعاجزة عن ممارسة الفعل الإيجابي.‏

كلما وقعت جريمة اغتيال أو تفجير إرهابية تقدمنا خطوة إضافية في اتجاه فقدان الثقة بمرجعية الدولة وذهب البعض من القوى في التوظيف السياسي إلى ما يزيد الانقسام بين اللبنانيين ويستثير المشاعر الطائفية والمذهبية. كأننا ببساطة نستجيب لأهداف الإرهاب في تقويض بنية الدولة والمجتمع. في كل أنحاء العالم يستنفر الإرهاب عناصر المناعة والقوى وتتجه الجهود إلى محاصرته أمنياً وسياسياً لأنه أداة تخريب غير عاقلة. نحن نسارع إلى التخفيف من مسؤوليات الدولة ونسعى إلى الحلول مكانها ونتورط في جر الناس إلى أشكال مختلفة من الأمن الذاتي الذي يقود إلى نزاعات أهلية. لدينا هذا الوهم الكبير بالقدرة على حل مشكلاتنا من خارج إطار الدولة. قادنا هذا في الماضي ويقودنا اليوم إلى الفوضى.‏

يقوم الإرهاب بأكثر أدواره فعالية عندما يدخل على النزاعات السياسية ويدفع بها إلى العنف. أهدافه الغريبة تختبئ خلف القضايا السياسية الجدية. غالباً ما يسعى الإرهاب إلى توريط الآخرين في مواجهات لا يريدونها.‏

أكثر جولات الحرب الأهلية ضراوة نشأت عن تدخلات طرف ثالث بدءاً من حادثة عين الرمانة التي اكتشفنا فيما بعد أنها لم تقع بقرار كتائبي. كل الاغتيالات والمجازر التي أدت إلى ردود فعل أهلية خطيرة كانت بتدبير أجهزة مخابرات لدول متصارعة على أرض لبنان. وظيفة بعض الاغتيالات إزالة الشخصية المستهدفة، وأكثر الاغتيالات هي لحفز عواطف الناس وجرفها باتجاه معيّن. كانت قوى الحرب تقتل الناس وتمشي في جنازاتهم. السياسات المصحوبة بالعنف التي تطبع المجتمعات المتخلفة هي جزء من أداة أساسية تعرف بالمؤامرة. العنف يطلق الغرائز، يعطل المنطق والعقل، يضعف الحسابات السياسية، يقوي الكيدية والذاتية وروح المغامرة.‏

إذا تأملنا أين كنا وأين صرنا في التحالفات السياسية والعداوات المستجدة عرفنا حجم الأنانية والمصالح التي حرّكت وتحرّك الصراعات وتصنع الأحداث. الجمهور هو دائماً الضحية لخطاب سياسي يُراد من خلاله استثارته وتعصيبه وأخذه إلى المواجهة الدامية. العنف هو وصفة لإدامة سلطة قوى وزعامات أفلست في لعب أي دور إيجابي سياسياً. إفلاس السياسيين يفتح خيارات العنف. السياسة لا ينتهي دورها ولا تنتهي وظيفتها بل القيادات السياسية هي من يجب أن تتنحى عن دور القيادة كلما فشلت في حل مشكلات المجتمع بالطرق السلمية.‏

صراعات اللبنانيين هي التي أدت إلى عهد الوصاية. وهي ما يفتح شهية الآخرين على التدخل ومحاولة السيطرة. وهي ما يشجع الإرهاب لكي يراهن ويستثمر ويختبئ. مسؤولية النخب كبيرة جداً إلى جانب مسؤولية أهل السياسة. المثقفون هم الذين يملكون الوعي التاريخي ويعرفون أن النزاعات الأهلية لا تخدم مسألة التقدم بل هي تستنزف المجتمع وتهدر طاقاته. النخب مسؤولة عن التحذير والتنبيه من حفلة الهلاك الجماعي التي تقود إليها لعبة الشوارع والجماهير في ظل انسداد آفاق الحوار. الحوار الوطني ليس ترفاً بل هو صمام أمان السلم الأهلي. النخب مسؤولة عن بلورة المشكلات بصدق والتفتيش عن سبل حلها. الجماهير الغاضبة المحتقنة التي تنفجر في الشوارع يجب أن تجد من يسمع لها ومن يعمل على مساعدتها من أجل رؤية الأمور بمنظور إيجابي، لنوقف اندفاع لبنان إلى متاهات الجماهير والكوارث.‏

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية / 29/1/2008‏

2008-01-29