ارشيف من : 2005-2008
وعود بوش والإعجاب بالثقافة الأميركية
جورج و. بوش في جولته على المنطقة تثير الإعجاب «بالثقافة الأميركية» التي يدعونا بعض وسطائها من المثقفين للأخذ بها. يفتش المرء عن نقطة تلاقٍ واحدة بين المشروع الأميركي ومصالح هذه «المجموعات البشرية» وطموحاتها المستمرة في التاريخ على هامش الحضارة المعاصرة، سواء اعترفنا بأنها «شعوب» أو ما دون ذلك بكثير، كما يدّعي البعض لتبرير استعمارها. هذه «الجماعات» تبقى من سلالات بشرية ولو اتفق بوش مع غلاة التيارات التكفيرية على وضعها في مرتبة «الجاهلية» إما عن الإسلام وإما عن «الثقافة الأميركية».
يحاول المرء أن يفتش في «وعود» بوش عن بارقة أمل تتعلق بالأمن والاستقرار كمطلب أوّلي ومتواضع تتشارك فيه جميع الكائنات الحية. لكن الرئيس الأميركي يستمر في شهر سيف الحرب على «الإرهاب» الذي ما يزال يتماهى في عقله الأمني مع الإسلام السياسي الحركي بمختلف أشكاله ووسائله وتجلياته.
جدّد بوش احتضانه الكامل لمشروع إسرائيل «دولة يهودية» فبارك سلفاً احتمالات التطهير الديني والعرقي التي تتهيأ لها. أيّد المطلب الإسرائيلي الراهن بحل الدولتين للتعامل مع الديموغرافيا الفلسطينية بالمزيد من سياسات الفرز والجدار العنصري العازل. أسقط قرارات الأمم المتحدة ومعايير القانون الدولي وحقوق الإنسان وعالج قضايا التهجير والاستيلاء على أرض شعب كامل ببدعة «التعويض». من دولة لليهود، إلى دولة يهودية صافية نابذة لأي شراكة إنسانية أخرى هي طبعة منقحة عن الصهيونية التي غذّت «الإسلام التكفيري» الذي يشكو منه بوش والثقافة الأميركية. لقد صارت هذه تبرر تلك ودخلنا في مسار سياسي وأمني يعبث بكل أشكال الأنظمة السياسية الدستورية وغير الدستورية القائمة على رابطة الميثاق الوطني والمنطلقة من فكرة المواطنة، ولو كانت غير مكتملة العناصر والمواصفات نحو روابط دينية ومذهبية وطائفية وعشائرية. إذا كانت هذه هي «الثقافة الأميركية» التي انتقلت بنا من «الديموقراطية» إلى نظام «التعدديات» بوصفنا «شعوباً غير مكتملة التكوين»، كما كنا في عصر القوميات «أمة غير ناجزة»، فإننا في حمّى البحث عن ديناميات الهويات الصغيرة صائرون بعون بوش إلى تفكيك جميع كيانات المنطقة والاحتراب الأهلي من أجل تحقيق ذلك.
لا ندّعي أبداً أن الثقافة الأميركية هي المسؤولة عن هذا التكوين الاجتماعي المركب والمعقد الذي هو نتاج تاريخ طويل من التفاعلات الحضارية. لكنه واقع ليس فريداً في بابه ولم يكن يوماً عائقاً مانعاً لقيام كيانات سياسية كبيرة أو متحدات عرفت حداً من الاستقرار والتفاعل السلمي الذي انطوى على مستوى لا بأس به من الحرية.
من المؤكد أن سيرورة التعايش بين الأثنيات والطوائف والمذاهب كانت أكثر ثباتاً في عصور ما قبل الاستعمار على امتداد التاريخ العربي الإسلامي حتى نهاية الإمبراطورية العثمانية. كما من المؤكد أن الموجات الاستعمارية هي من ساهم في تفجير تناقضات ونزاعات أدت في الماضي وهي تؤدي الآن إلى إضعاف مقومات الانسجام والتعايش والتسامح، لأن الكيانات السياسية الحاضنة تتعرض إلى ضغوط الخارج ونزعته التفكيكية.
بشّرنا الرئيس الأميركي ببقاء قواته في العراق لعشر سنوات على الأقــل. إنه يضحّي من أجلنا في استمرار مهمته «التمدينيــة» التي كلــفت العراق في السنوات الخمس الأخــيرة فــقط، أكثر من مليون شهيد حتى لا نحصي النتائج التدمــيرية على مظــاهر حضـارته وثقــافته وتقدمه العلمي وقدراته المادية والحد الأدنى من وحدة شعبه.
ما يعد به بوش حروباً جديدة ضد «المجتمعات» التي ترفض الانضمام إلى معايير «الثقافة الأميركية» وأهدافها. لا شك في أن المنطقة عاجزة الآن على وقف الاجتياح العسكري وهي لا تتداعى له بصورة منتظمة ومتساوية، لكن بوش يعرف أنها لن تتماهى معه وأن العنف الأميركي الذي لا يعترف بحقوق شعوب المنطقة، والذي أسقط أدوار جميع نخبها المتقدمة، يبرّر العنف البــدائي الغريزي الذي تمارسه الجماعات التي أخرجــها من دائــرة الحضارة والإنســانية.
كنا ننتظر من بــوش فعلاً أن يتحدث عن ثقافة السلام وعن الديموقراطية وحقوق الإنسان، وأن يدعونا إلى مائدة الثقافة الأميركية الليبرالية الحقيقية التي لم ننكر حضورها وتأثيرها في العالم. كنا نرغب أن يعطي بوش أنصاره حجة على أنه يبعــث رسالة قوية من أجل خروج المنطقة من ثقافة الحروب إلى مستقبل من التعايش في ظل الاعتراف بالآخر. كنا ننتظر من بوش أن يدخل المنطقة من بوابة أرحب من البوابة الإسرائيلية، ومن مواقع أكثر قبولاً لدى الشعوب من دعم حكومات تســتقوي بدعمه ولو كرهت الديموقراطية. كنا نريد أن يضحك علينا بوش ويصفنا بأننا شعوب تطمح لاكتساب الثقــافة الأميركية ولسنا مجرد قبائل وأشقياء وبؤساء وإرهابيين وأنه جاء لتأديبنا، والبحث عن تبريرات لحرب جديدة. نأمل من أصدقاء بوش ومن أنصار «الثقافة الأميركية» التي أعطتــنا هذا الانطــباع السيء أن يقدموا لنا المزيد من التوضيـحات. فما أشــقى الحب من طرف واحد!
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية ـ 15/1/2008