ارشيف من : 2005-2008

ساعة من المسير خلف رجل من نسل الشجعان ودعته الحناجر بـ"كلنا رضوان"

ساعة من المسير خلف رجل من نسل الشجعان ودعته الحناجر بـ"كلنا رضوان"

لم يسقط الفارس عن صهوة جهاده، اتكأ العماد على الرمح، ارتفعت الأرض تضُمه، لفه العلم، حَمَلَتْهُ الأكف، حَفَتْ بالنعش المظلل بالغمام أطياف الشهداء والملائكة، شيعتهُ الجماهير، وَدَعته العيون والحناجر والقبضات في مسيرة عُمرها أكثر من ربع قرن، امتدت من مجمع سيد الشهداء في الرويس الى روضة الشهدين في الغبيري تحت المطر والدموع.
رحلة الجسد المسجى الى مثواه الأخير بدأت حين اعتلى منصة الشرف يُلقي نظرة الوداع على صف طويل من المُعزين ورفاق الدرب يتقدمهم الحزن والأسى، ووفد كبير رفيع المستوى يُمثل قيادة الجمهورية الاسلامية الايرانية وشخصيات عُلمائية وحزبية ووزراء ونواب وفعاليات وأخوات وإخوة، حضروا يتشرفون بالتعرف الى "الحاج رضوان" وهو يُغادر الى جنة تزينت من أبوابها الى قصورها، ووقف سُكانها في مهرجان الفرح العظيم يستقبلون عماد مغنية بعدما طال الانتظار واشتد الشوق.
كان الجسد المسجى طوال الليلة التي سبقت موكب الإباء معلقاً بين الأرض والسماء، ظلت قلوب الأحبة من رفاق درب الجهاد ساهرة تطوف حول المجمع، تطلب الإذن بالدخول للمبيت مع الشهيد. مسيرات عفوية جابت الشوارع تحت رذاذ السماء الدامعة والعتمة الباردة، تهتف بصرخة باكية "حج عماد حج عماد شهادة مُباركة".
في سكون تلك الليلة فَتَح القرآن صفحاته لختمية واحدة أو أكثر، وأطلقت والدته الحاجة أم عماد العنان لشوقها الدفين، وحملت آخر أولادها سلام إلى أحبة قلبها: "سلم يا حاج عماد على جهاد وفؤاد".
الحاج فايز أبو عماد يقف للمرة الثالثة يتقبل التعازي بآخر أولاده الذكور وأكبرهم، وهو الحاج رضوان الذي رحلَ مُكللاً بالغار. جهاد استشهد عام 1984 بقذيفة غادرة، وبعد عشر سنوات التحق به فؤاد بعبوة اسرائيلية ناسفة، لينضم اليهما عماد شهيداً بانفجار زرعته يد إسرائيلية.
كانت ليلة عائلية هادئة، لبس عماد ثوب الشهادة الذي يليق بقامته، نفض الدم عن كفه بعدما حَمَلَهُ دهراً، وتأزر بكفن ملائكي أبيض، كان يستمع لدعاء خافت من والدته، وتلاوة مباركة من سورة ياسين، أهدتها اليه أخته زينب.
في صباح يوم التشييع غصت الشوارع المؤدية الى مجمع سيد الشهداء بالرايات السوداء والصفراء. كان الحزن يسكن الأحياء، ويتدلى من الشرفات، ويترقب الناس ساعة الوداع. كان الفتية يوزعون صور القائد الكبير الحاج عماد مغنية.
بعد صلاة الظهر كان مجمع سيد الشهداء يفيض بالمشيعين، اكتظت الطرق بالواقفين تحت المطر. خلال دقائق تحول الحشد الى طوفان بشري، أُقفلت أبواب القاعة باكراً خشية حصول تدافع.
 بدأت مراسم التشييع بتحية عسكرية للنعش المحمول فوق أكتاف 6 من مجاهدي المقاومة الاسلامية، وضعوا النعش فوق مرتبة مُغطاة بقماش أصفر وسط منصة منبر الإمام الحسين عليه السلام الذي اعتلته أيضاً أكاليل الورد الجوري التي أحاطت الجسد المسجى بخجل. في تلك اللحظة من عمر المقاومة حبس الذهول الرهيب الأنفاس والقلوب، سيطر صمت مهيب على الأجساد الشاخصة نحو يافطة معلقة على الجدار مكتوب عليها: "كل العزاء لسيد المقاومة ومجاهديها، باستشهاد القائد المجاهد الحاج عماد مغنية". لم تدم لحظة الصمت طويلاً، دوى لحن الشهادة قاسياً، تبعه نشيدا لبنان وحزب الله، ثم أنشد الناعي: "مَن قال رضوان رحل، كلا ما رحل البطل".
ألقى وزير خارجية الجمهورية الإسلامية الايرانية برقية أرسلها رئيس الجمهورية محمود أحمدي نجاد وصف فيها الشهيد بالشجاع من نسل الشجعان. ثم توجه بكلمة باسمه وباسم الحكومة وجميع سفراء الجمهورية في العالم بتحية للمقاومة، قبل ان يترك المنبر لأمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصر الله الذي اهتزت القاعة عدة مرات جراء صرخات الحناجر الصاخبة: "لبيك يا نصر الله".
 بارك سماحة السيد هذا الاصطفاء الإلهي لعائلة "أبو عماد" فايز مغنية، ولوالدة عماد التي قدمت كل أولادها شهداء.. وتحدث عن بداية مرحلة جديدة ستؤرخ لبداية سقوط "اسرائيل".
أنهى سماحة السيد كلمته، فتقدم سماحة الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام الحضور للصلاة على الشهيد قبل سفره الى الله محمولاً على الأكف.
قبل ان تسير الجنازة على صوت الناعي الذي أبكى العيون: "في أمان الله يا شهيد الله"، انفجر الطوفان البشري سيلاً بشرياً جارفاً على وقع ارتطام حبات المطر على الأجساد التي زحفت نحو جبانة روضة الشهيدين، وهي تنشد مرثيات ألقيت في وداع جميع الشهداء منذ العام 1982.
سار الآلاف في موكب لا يشبه في صورته إلا تشييع الشهداء القادة، جنازة لا تليق إلا بقادة الجيوش المنتصرين ورؤساء الأركان المميزين. تقدم الموكب صور الشهداء، وثلة من المجاهدين في استعراض رمزي، الى جانب الموسيقى الكشفية التي ظلت تعزف بلا انقطاع لحن الوداع خلف صورة للشهيد في بزّته العسكرية.
اعتلى النعش المتدثر بالأصفر هامات الرجال الذين تعرفوا الى الشهيد في ليلة وضحاها، وكان يفترض ان يكون هذا اليوم للعناق لا للفراق. ظل النعش يتأرجح وسط السيل البشري الهادر يتلقى المطر المنهمر من السماء، والأرز المنثور من الشرفات والورد المنشور من الصبايا، ويستمع الى وعد صادق وقسم راعد: "من عزيمتنا لن ينالوا، كُلنا ايمان، كُلنا رضوان".
بعد ساعة من المسير وصل النعش المُبلل بالماء الرباني، ومعه موكب الإباء، الى مدخل جبانة روضة الشهيدين.. لم يتمكن حملة الجثمان من اختراق الطوفان، أوقف التدافع النعش في مكانه، بعدما تمكنت الأيادي من تمزيق الغطاء، ما اضطر المنظمين الى الاستعانة بعدد كبير من الانضباط لوقف التدافع وفتح طريق أمام الجسد المُسجى إلى مثواه الأخير. هناك في الجبانة التي احتضنت أجساد الشهداء استأذن الحاج رضوان من حملة النعش وجميع المشيعين، لأنه سيدخل الى روضته وحيداً. غاب عن الأنظار كما كان في حياته مجاهداً في السر. غرقت العيون في الدموع، لطمت الأيدي الصدور، ضجت أرواح المؤمنين والشهداء من هيبة الشهيد الوافد الى جنان الله.
قال المشيعون قبل ان يعودوا الى منازلهم: "في أمان الله"، رد صوت لم يسمعه إلا الحاج عماد: "أهلاً بك في رضوان الله".
قاسم متيرك
الانتقاد/ العدد 1254 ـ 15 شباط/فبراير 2008

2008-02-15