ارشيف من : 2005-2008
حدث في مقالة: فريق السلطة يتأرجح بين الرقص على حافة الهاوية والسقوط فيها
كتب مصطفى الحاج علي
نستطيع أن نسجل لأركان فريق السلطة، لا سيما جنبلاط والحريري، أنهم يأتون اليوم في المراتب الأولى للأسماء المتخصصة في نشر الخوف والقلق بين أوساط الناس عموماً. لم نكن في الأيام الفائتة أمام خطاب سياسي حقيقي، بقدر ما كنا أمام جنون سياسي فالت من عقاله، يتخبط خبط عشواء، تماماً كفيل هائج في غرفة مملوءة بالخزف، لا يملك إلا أن يحطم كل شيء أمامه. لقد وضع الحريري وجنبلاط اللبنانيين أمام أبشع سيناريو لفيلم رعب محفور في ذاكرتهم حتى العظم، ولم يصدقوا متى تجاوزوه نحو مرحلة السلم الأهلي. والأدهى من هذا كله أن هذا الثنائي أدلى بما أدلى به لمناسبة مقتل الرئيس الحريري الأب، ما أظهر مستوى الاستغلال الرخيص لهذه المناسبة. فهما بدل أن يتجاوزا أخطاء الماضي ويرتقيا بها إلى مصاف المناسبة الوطنية الجامعة، إذ بهما ينزلان بها إلى مصاف المتاجرة السياسية الرخيصة، ويقزمانها إلى ما دون الأطر الفئوية أو المذهبية أو الحزبية. وبذلك بدلاً من أن يحسنا إلى صاحب المناسبة، أساءا اليه بألف طعنة وطعنة.
لقد ساق الثنائي جنبلاط ـ الحريري تبريرات متنوعة لسلوكهما العصابي هذا، وحاولا في جلّه أن يحملا مسؤوليته إلى المعارضة، ووضعه بالتالي في سياق الدفاع عن النفس، أو الهجوم الوقائي، باعتبار أن خير دفاع أحياناً هو الهجوم. وفي بعض ما أدليا به من مواقف حاول كل منهما أن يرفع مستوى الخطر الذي يتهدده إلى مستوى الخطر الوجودي، كل ذلك في محاولة واضحة لرفع درجة التحضير والعصبية لدى جمهور الموالاة إلى الحد الأقصى، لا سيما إذا ما كان المحفز الآخر هو المال والإغواء بالمشاريع التي لا تأتي أبداً. بكلمة أخرى، من يحاول أن يستشعر درجة الهلع والخوف المبطن للهجة التحدي والتهديد لدى الحريري ـ جنبلاط، يظن للوهلة الأولى أن المعارضة باتت قاب قوسين أو أدنى من حسم الأمور، وأن وضع فريق الموالاة في الأرض ومعنوياته ممزقة، وتماسكه يتلاشى، ما يفرض ضرورة إعادة اصطناع المعارضة كعدو وجود، وإظهار التناقض معها تناقض حياة أو موت، عسى أن يقود ذلك إلى تزخيم الحشد الشعبي اللازم لتوجيه أكثر من رسالة إلى الداخل والخارج، بل والى الذات أيضاً.
أما مضمون هذه الرسائل فيمكن ايجازها وفق التالي:
أولاً: بالنسبة إلى الذات، يظهر بوضوح أن لدى فريق الموالاة حاجة سيكولوجية أو قل سايكورسياسية لإعادة استشعار الثقة بالذات وبالتوازن النفسي والمعنوي. فسياسة نشر الخوف انما تستهدف كسر حالة المفارقة بين حالتين ووضعين: حالة فريق الموالاة الهلع ووضعه المهترئ، وحالة فريق المعارضة ووضعه المستقر والمطمئن. ويمكن اجراء مقارنة سريعة بين مقابلة السيد حسن نصر الله والجنرال عون التي عكست اطمئناناً وثقة واتزاناً وخطاباً عقلانياً من الدرجة الرفيعة، ومواقف كل من الحريري وجنبلاط الميليشياوية بامتياز، والممتهنة لتجارة الخوف والرعب والإرهاب، لنخلص منها إلى الهدف المطلوب نفسياً وسياسياً.. فعبر تصدير الخوف والإرهاب وتعميمهما يراد كسر حال انعدام التوازن الإيجابي لمصلحة المعارضة وصولاً إلى حال التوازن السلبي بين المعارضة والموالاة. لكن فات هذين النجمين أن اللبنانيين قد مجوا لغة الفتنة وصناعها، ولغة الحرب الأهلية، وباتوا يميزون بدقة بين خطاب العقل والقلب والروح، وخطاب الجنون والنزف والنزوع نحو الانتحار.
ثانياً: بالنسبة إلى الداخل، والمقصود هنا الداخل الخاص، والداخل العام، المعارضة. فعلى صعيد الداخل الخاص، أي البيئة الطائفية لكل من جنبلاط والحريري، فكلا الرجلين يظهر حنقاً غريباً حول نجاح فكر المعارضة ومشروعها في اختراق بيئتهما الطائفية.
فهم يريدون بيئة طائفية نقية محسوبة لهم مئة في المئة، بيئة يستطيعون ادعاء احتكار قرارها السياسي والوطني. يريدون بيئة طائفية مقفلة بالعصبية وعلى العصبية، وممنوع بالتالي تنوع الآراء في داخلها. فالديمقراطية جريمة، والرأي المخالف يستحق اطلاق النار عليه! لكن حتى تجد هذه المواقف مشروعيتها، ولوضع الحواجز والموانع أمام فاعليتها، تُصور كغزو طائفي، إلى غزو طائفة لطائفة أخرى، تماماً كما بعد عدوان تموز عندما قام الاعلام العربي ـ الرسمي المتحالف مع الاعلام الاميركي ـ الصهيوني بالتركيز على الهوية الشيعية للمقاومة في لبنان، بغية نصب الحاجز المذهبي أمام تمدد منطق وفكر ونهج المقاومة الذي يعرف الجميع أن كل المذاهب تتشارك فيه على امتداد الساحتين العربية والاسلامية.
من الواضح أن هذا المنطق يحاول إحداث تأليب مذهبي داخل المذهب نفسه لمحاصرة الرأي المخالف وتهديده بالقتل، ومنه لإعادة شد العصبية المذهبية في مواجهة المذهب الآخر، بما يمهد الطريق واسعاً أمام الفتن الطائفية والمذهبية. ويحدثونك بعد ذلك عن السلم وحب الحياة والاستقرار والحضارة!
وأما بالنسبة للداخل العام، أي المعارضة، فالمطلوب خلق حالة ردع، أو هكذا يتصور على الأقل، وذلك لتكتيف المعارضة عن أي حركة مواجهة مستقبلية ترى أنها باتت ضرورية. فالتذكير بالفتنة وإظهار الاستعداد بالذهاب إلى النهاية، ليس إلا محاولة لاستثمار نقطة القوة والضعف في آن لدى المعارضة، ألا وهي اصرارها على تجنب الحرب والفتن الأهلية والطائفية مهما كلف الأمر.
فالثنائي جنبلاط ـ الحريري يقولان بالفم الملآن للمعارضة: ممنوع عليك استخدام أوراق القوة التي بحوزتك، لا سيما القوة الشعبية، لحسم الأمور، لأن لدينا كل النوايا والاستعدادات لسفك الدماء وزرع الدمار.
فما يبحث عنه هذا الثنائي هو توازن الخوف، عسى أن يشكل لهما مدخلاً إلى تسوية لا يضطران معها إلى تقديم التنازلات المطلوبة لمصلحة المعارضة ومصلحة الوطن.
وليس رد العديد من أطراف المعارضة على فريق السلطة بأن للصبر حدودا، وأن المعارضة لن تكتفي هذه المرة بعدّ الضربات وإحصاء الإصابات، وأنها جاهزة لكل الخيارات، إلا كسراً للمعادلة التي يحاول جنبلاط ـ الحريري ارساءها.
ثالثاً: بالنسبة إلى الخارج، فهذا الفريق بلا شك خائف من احتمال أن يذهب "فرق عملة" في المرحلة المقبلة على طاولة التسويات الكبيرة أو الصغيرة، خصوصاً بعد فشله المتفاقم في إثبات جدارته في الإيفاء بالالتزامات التي قطعها على نفسه لواشنطن وباريس، وحتى للكيان الإسرائيلي. ويدرك هذا الفريق أنه عندما يحين الأوان الفعلي للتسويات لن يكون بإمكانه أن يحفظ رأسه، ويعلم بالتالي أن حليفة الأميركي في مأزق، وحليفه الإسرائيلي في مأزق، وحلفاءه العرب ليسوا في أفضل حال. وأكثر من ذلك فإن ادارة بوش لم يعد أمامها إلا أشهر قليلة قبل أن تتحول إلى بطة مشلولة، وليس من بارقة في الأفق تظهر حتى الآن أن لدى هذه الادارة القدرة على شن حرب مفصلية، ما يعني أن عامل الوقت لا يعمل لمصلحة فريق الموالاة. وعليه بالتالي أن يستعجل اجراء تسوية الآن قبل الغد حتى لا يضطر إلى دفع الأثمان مضاعفة. ولذا فهو يعمل على إرسال إشارات القوة والقدرة حتى لا يضحى به، وربما لدفع الخارج للتدخل أكثر لمصلحته، بما يحول دون اضطراره إلى القيام بتسوية الخاسر.
في خطاب فريق السلطة الكثير من العنتريات، وإظهار الاستعداد لممارسة لعبة الاندفاع نحو الهاوية، لكن ليس للسقوط فيها فعلاً بقدر ما هي دعوة للتدخل أكثر لمنعه من القيام بهذه الخطوة.. دعوة للمعارضة لتقبل بالمعروض عليها، ودعوة للأطراف المعنية للأخذ بيده. لا شك في أنها لعبة خطرة، لكنها مفضوحة، ولن ترتد إلا على أصحابها، لأن لبنان أقوى من الجميع وفوق الجميع، ولأن اللبنانيين لم يعودوا أغبياء.
الانتقاد/ العدد 1254 ـ 15 شباط/فبراير 2008