ارشيف من : 2005-2008
بقلم الرصاص: أخيراً... زارنا عماد بكل دمائه
كتب نصري الصايغ
1 ـ إلى سلالة عماد
* ما اسمك اليوم وغداً؟
ـ عماد.
* ما اسم سلالتك الجديدة إلى يوم القيامة؟
ـ عماد.
* وهل يغيِّر الناس أسماءهم؟
ـ عندنا، لكل طفل، شابّ، رجل وشيخ، اسمان: الأول على هوى الأهل، والثاني على هوى الأرض.
* وكيف تعرفون بعضكم بعضاً؟
ـ من جباهنا. ألا ترى أسماءنا عليها؟ من عيوننا. ألا ترى الضوء في دمعها؟ من حناجرنا، ألا تسمع النبرة في صلواتها؟ من سواعدنا. ألا تحسُّ خشونة القوة في عرقها؟ من أقدامنا. ألم تعرف أنها زحفاً زحفاً إلى القدس؟
* وكيف أعرفكم أنا؟
ـ لا يعرفنا إلا من يشبهنا، ألم تَرَ إلى حشد كبير خلع عنه أسماءه كلها، ولبس "عماد"، إلى يوم النصر؟ خذوا أسماءنا كلها، ضمخوها بعطر البطولة، ووشم عماد، وأعيدوها إلينا لنتعرف من خلالها الى نفوسنا.
* ولكنه مات؟
ـ كان الموت يأكل معه في الصحن، وينام معه في الفراش، من كان صديقاً للموت كعماد، صار سيداً على الحياة. أما وقد افترش موته، فلقد أتمَّ تصوّفه بالشهادة.
* هل قدركم أن تتبعوا الأموات؟
ـ بل أمواتنا، أحياء عند شعوبهم يرزقون إلى أبد الآبدين.
2 ـ الخضر لمرّتين.
كان عماد مغنية، على صلة رحم بالانتصار. كأنه ليس موجوداً إلا لوجود آخر، يصنعه لنا، من خبز عتمته، وطحين مجهوله، ونار أوقدها في أمكنة كثيرة، ليطعمنا خبز العام 2000، ورغيف العام 2006.
كان عماد مغنية، عبقري الصمت والغياب، باع أمجاد الدنيا، لصنع قذيفة، لإتقان القتال، لقيادة أشباح من لحم ودم وأفق، ولرسم تضاريس المعارك. وكان، في عزلته المشحونة، يسهر على صلة القربى القائمة بين الرصاصة والقبلة، بين القذيفة والعناق، بين الولادة والانتصار. كأنه منذور فقط، لوهج أيار، لنار حزيران.
وكان عماد، حاضراً حيث لا يحضر أحد. وحيث الحضور جدوى بلا كلام، وحيث الحضور فعل يغيّر. وكان مما تغيَّر في أزمنة عماد مغنية، منطق الدقة في استعمال القوة، ومنطق الأحرار الدائم على التفوق على العدو، ومنطق الضعف الأشد بأساً من القوة، ومنطق استبعاد الهزيمة في عز المحنة وشقوة المصاعب وأهوال الموت.
كأنه لم يكن منا، أو كأنه كان مثلنا بطريقة لا شبيه لها في دنيا القيادة.
كأنه لم يكن من قاموسنا العربي، قاموس الهزيمة، قاموس التبرير، قاموس البيع والشراء، قاموس الثكنة المدججة بالإرادات المتهاوية، قاموس التطبيع وتقبيل الأيدي... كأنه جاء من الأسطورة الإيمانية، وفاز بالنصر.
هو ما بعد الخضر، خضر مختلف، يصرع التنين، وينأى عن الشكر.
3 ـ رثاء نيوجيرسي
وكان ما كان. ذات عدوان، قدمت نيوجيرسي إلى مياهنا، ورمت الجبل بقنابلها.
وتغيَّر ما كان. لم تعد نيوجيرسي عدواً. صارت بائعة ورد في بيروت، ويتهافت الأعداء القدامى، إلى ربط عروتهم بزر كونداليسا رايس.
وانقلب ما كان إلا لون شعب، كان قائده السري، رجل يدعى عماد. اتهموه برد العدوان على الجبل ولبنان. اتهموه بأنه لم يرم الأميركيين بالورد. اتهموه أنه دبر للأعداء الكثير من الدخان والغبار.
صار مطلوباً هنا، مثلما كان مطلوباً هناك وهنالك.
لكننا، كنا نصرّ على تربية خوفنا عليه، من الجمع المنقلب على نفسه. كنا نصرّ أن نكون أيقونته، وتعويذته وحراسه بالصلوات والدعاء.
لكننا لم نغيّر رأينا بنيوجيرسي، لأننا رأينا البوارج الأميركية السياسية والعسكرية، قد وقّعت صك إقامة دائمة، في بلاد راكعة، ورؤوس خانعة، وخيام دامسة، وسلطات تالفة، وجيوش سافلة.
لم نغيّر رأينا بأميركا التي باتت صديقة قتلاها القدامى. لأننا نملك صكوكاً من حقوق، غير قابلة للتنازل. ولقد عهدنا بصكوكنا إلى قوم، ما بدَّلوا تبديلاً. وأمس ازددنا يقيناً، عندما عرفنا أن عماد قد بات حيّاً بيننا، وصار بإمكاننا أن نحكي عنه علناً، بعدما كنا نهمس به سراً.
يا القائد! يا العماد! أعدت إلينا الصكوك ممهورة بدمك. سنقدسها إلى يوم الانتصار... وهو قريب، لأن إسرائيل باغتيالك تجهز أكفاناً كثيرة لنعوشها.
4 ـ دمنا غذاؤنا
متى تدرك "إسرائيل" أن دماءنا عدو لها؛ متى تتعرّف إلى أن قتلنا يهيئ لها فرصة حفر قبور لها؟
فلتتذكر: عز الدين القسام، سعيد العاص، ايلاريون كبوجي، أبو زياد، أبو حسن سلامة، أبو جهاد، عبد العزيز الرنتيسي، وما لا عدّ له من فلذات حياتنا وقادتنا، فلتتذكر: أبو يوسف النجار، كمال عدوان وإخوانه، فلتتذكر صبرا وشاتيلا، وقانا ذات الشهادتين، وبيروت لمرتين، فلتتذكر سيد شهداء المقاومة، ومعتقلي الخيام...
ألم تدرك بعد، أن دماءنا خنادقنا الجديدة، أن اغتيال قادتنا، طريقنا إلى النصر؟ ألم تعرف بعد، أنها خسرت معركتها في لبنان، وقد تخسر معركة وجودها وبقائها.
ماذا نفعل لها أكثر؟ كيف نفهمها؟ أننا لا نخاف. شعبنا باع الدنيا، من أجل قداسة حقوقه. شعبنا باع دنياه، من أجل حريته، شعبنا مجنون بالحرية ولن يتنازل عن جنونه، ويصبح واحداً من المعتدلين العرب؟ لن تفهم إسرائيل علينا.
قتل عماد مغنية، سيقصف سنوات من عمر إسرائيل، ومن يعش يرَ.
5 ـ شاهد زور
لم ينصفك العالم، أصلاً، أنت يا عماد، لم تكن تريد إنصافاً من أعداءٍ اختاروا أن يكونوا أعداءنا، علماً أننا لم نؤذهم، لقد صدَّروك في إعلامهم، إرهابياً.
حسناً، إذا كانوا يعتبرونك كذلك، فسنحبك أكثر وسنفوز بك أكثر، أما هم فقد خسروك، خسروا أن يستفيدوا منك، لأن نضالك، شجاعتك، وتواضعك وقيادتك واستراتيجياتك، تصلح لأن تكون قدوة.
لن يقتدوا بك... إلا بعد فوات الأوان.
أما نحن... هلا قرأت أسماءنا الجديدة، إنها أنت، إنها عماد.
الانتقاد/ العدد 1254 ـ 15 شباط/فبراير 2008