ارشيف من :ترجمات ودراسات
سؤال برسم قيادتها: هل من سياسة لروسيا في الشرق الأوسط؟
لؤي توفيق حسن(*)
هل بدأت روسيا رحلة الألف ميل لاستعادة دورها كدولة عظمى؟
هذا السؤال طرحه أكثر من مراقب بعد زيارة الرئيس ديميتري ميدفيدف إلى سوريا وتركيا، غير أن الوقت ما زال مبكراً للإجابة عن هذا التساؤل، ولا سيما أن السياسة الشرق أوسطية لموسكو أقرب إلى العلاقات العامة منها إلى أي شيء آخر، ولعل الدعوة إلى "مؤتمر موسكو الدولي حول الشرق الأوسط " هي من هذا القبيل، حتى ان الرئيس ميدفيدف لم يتوقع منه إذا ما انعقد أكثر من "الحد الأدنى" على حد تعبيره!، إدراكاً منه لتأثير بلاده المحدود في المنطقة بعد غيابها الطويل عن ساحتها.
يبقى السؤال: هل تطمح روسيا لاستعادة التجربة السوفياتية في الشرق الأوسط؟!.
لا شك في أنه لو صح هذا الطموح، سيكون بمثابة خطيئة، ومن المهم هنا العودة إلى الوراء للبحث عن ماهية وظروف تلك التجربة، ليظهر أن الشرق الأوسط لم يكن من اولويات السياسة "السوفياتية"، بل أوروبا الغربية، وذلك من أجل إبعادها عن الولايات المتحدة، من خلال استخدام الأثر النفسي للقوة السوفياتية الجبارة ومن خلال إشراكها أيضاً بمصالح اقتصادية، ما يؤدي إلى دفعها نحو نوع من الحياد السلبي أو "فنلدتها" – نسبة إلى فنلندا – بحسب تعبير محمد حسنين هيكل.
أما الشرق الأوسط فقد كان – وما زال – أولوية في السياسة الأمريكية يقيناً منها بأنه قلب العالم القديم، والمفتاح للسيطرة على أجزاءٍ منه أو الدخول إلى بعض أجزائه الأخرى.
لم تكن هذه النظرة الشمولية ماثلة في السياسة السوفياتية، وهنا مكمن عقمها، ما أدى بها إلى خسارة الشرق الأوسط، ودرعها الأوروبية معاً ـ (أوروبا الشرقية) ـ، وصولاً لانفراط "الامبراطورية".
استطراداً ومن باب الانصاف فإن اخطاء العرب كان لها نصيب في خسارة "الاتحاد السوفياتي" للمنطقة، لكن من الانصاف ايضاً القول انه كان بوسعه آنذاك مساعدة العرب أكثر مما ساعدهم، الأمر الذي كان سيفتح أمامه افاقاً أوسع لا سيما مع حليف وازن مثل مصر، وقيادة تاريخية كقيادة جمال عبد الناصر.
وكان يفترض بأن يستدرك "السوفيات" الامر سريعاً بعد خسارتهم لمصر وذلك بدعم سوريا كي تحقق "التوازن الاستراتيجي" مع "اسرائيل" كما كان يطمح وينادي به رئيسها الراحل حافظ الأسد.
ليس من العسير على دولة عظمى أن تحول صديقاً إلى قوة عسكرية لها شأن، وهذا ما فعلته أمريكا مع "اسرائيل"، وما فعله "السوفيات" مع كوريا الشمالية والهند.
قال "السوفيات" للعرب عام 1967 لقد عجزتم عن استعمال سلاحنا، وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكن عندما قرر العرب وعقدوا العزم، ماذا كانت النتيجة؟!
رحل عبد الناصر ولم يتمكن من الحصول على طائرات الميغ 23 لمواجهة الفانتوم، بل حتى تزويده بصواريخ أرض جو دفاعية، جاء بعد جهد جهيد وبعد تهديده القيادة "السوفياتية" بتقديم استقالته وتسليم السلطة لرئيس يمكنه التفاوض مع الأمريكيين – كما نقل هيكل ـ
.
وبعد سنوات وعندما وصلت الميغ 23 إلى سوريا كانت "اسرائيل" قد تزودت بطائرات أكثر تفوقاً وهي F15 و F16 ، أما ما سيصلها من سلاح بعد زيارة ميدفيدف فنرجو أن يأتي في وقته المناسب، كما هو في مكانه الصحيح باعتباره البلد الوحيد في العالم العربي الذي لم تستطع أمريكا تطويعه.
مرة أخرى سيبدو من الحماقة استنساخ الروس للتجربة السوفياتية في المنطقة، لان موسكو اليوم لا تملك ما كان لديها بالأمس، ونعني البعد العقائدي في السياسة الذي كان بمثابة "القوة الناعمة" التي ساعدت على تمدد النفوذ السوفيات نحو بلدان عدّة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
إضافة إلى ذلك، ستبدو مقاربة قضايا المنطقة بالرؤية السوفياتية نوعاً من قصر النظر، فالشرق الأوسط لم يعد ساحةً لمشاغلة أمريكا، أو مشاكستها، وإنما هو الآن ساحة وممر نحو وسط آسيا، وهي ما كان يصفها هتلر "البطن الأسيوي الرخو" لروسيا.
إن هذا لا يتناسب إلا ورؤية استراتيجية جديدة تنظر إلى الشرق الاوسط بوصفه خط الدفاع عن روسيا بالذات، بعد ان باتت أمريكا على ضفافها القريبة في الخليج وافغانستان. فهل الأداء الحالي للسياسة الروسية يتناسب وهذه الأخطار التي يستشعرها الاستراتيجيون في موسكو، وبناءً عليها يدقون الناقوس؟ حتى الساعة تدار السياسة الروسية في المنطقة بعقلية (تجارة التجزئة)!. تعطي إيران تسهيلات لاقتناء تقنيات صناعة بعض الأسلحة، او تخصيب اليورانيوم، ثم تنضم بمكان آخر إلى أمريكا في فرض العقوبات عليها للحيلولة دون اتمام مشروعها النووي!.
صحيح أنه ليس بوسع روسيا أن تكون اللاعب الأول في المنطقة، ولكن بوسعها حتماً أن تكون اللاعب الثاني، لا سيما بعدما أصبحت الأمور أسهل أمامها حيث نقاط ارتكازها المفترضة في المنطقة (سوريا – إيران – المقاومة) باتت في مواقع أكثر تقدماً وتأثيراً قياساً بأصدقاء الأمس.
المفارقة أن هذه القوى الثلاث استطاعت ان تتكيف مع غياب روسيا الطويل عن الساحة، وان تبني قواها الذاتية، كلٌّ بحسب ظروفها، حتى تمكنت من الصمود في وجه الهجمة الأميركية ـ الصهيونية، ثم على صخرتها تكسر " مشروع الشرق الأوسط الجديد". لقد بات الطريق أمام موسكو أسهل الآن وأرحب، وكل المرجو منها ان لا تضيع الفرصة.
(*) كاتب من لبنان
هل بدأت روسيا رحلة الألف ميل لاستعادة دورها كدولة عظمى؟
هذا السؤال طرحه أكثر من مراقب بعد زيارة الرئيس ديميتري ميدفيدف إلى سوريا وتركيا، غير أن الوقت ما زال مبكراً للإجابة عن هذا التساؤل، ولا سيما أن السياسة الشرق أوسطية لموسكو أقرب إلى العلاقات العامة منها إلى أي شيء آخر، ولعل الدعوة إلى "مؤتمر موسكو الدولي حول الشرق الأوسط " هي من هذا القبيل، حتى ان الرئيس ميدفيدف لم يتوقع منه إذا ما انعقد أكثر من "الحد الأدنى" على حد تعبيره!، إدراكاً منه لتأثير بلاده المحدود في المنطقة بعد غيابها الطويل عن ساحتها.
يبقى السؤال: هل تطمح روسيا لاستعادة التجربة السوفياتية في الشرق الأوسط؟!.
لا شك في أنه لو صح هذا الطموح، سيكون بمثابة خطيئة، ومن المهم هنا العودة إلى الوراء للبحث عن ماهية وظروف تلك التجربة، ليظهر أن الشرق الأوسط لم يكن من اولويات السياسة "السوفياتية"، بل أوروبا الغربية، وذلك من أجل إبعادها عن الولايات المتحدة، من خلال استخدام الأثر النفسي للقوة السوفياتية الجبارة ومن خلال إشراكها أيضاً بمصالح اقتصادية، ما يؤدي إلى دفعها نحو نوع من الحياد السلبي أو "فنلدتها" – نسبة إلى فنلندا – بحسب تعبير محمد حسنين هيكل.
أما الشرق الأوسط فقد كان – وما زال – أولوية في السياسة الأمريكية يقيناً منها بأنه قلب العالم القديم، والمفتاح للسيطرة على أجزاءٍ منه أو الدخول إلى بعض أجزائه الأخرى.
لم تكن هذه النظرة الشمولية ماثلة في السياسة السوفياتية، وهنا مكمن عقمها، ما أدى بها إلى خسارة الشرق الأوسط، ودرعها الأوروبية معاً ـ (أوروبا الشرقية) ـ، وصولاً لانفراط "الامبراطورية".
استطراداً ومن باب الانصاف فإن اخطاء العرب كان لها نصيب في خسارة "الاتحاد السوفياتي" للمنطقة، لكن من الانصاف ايضاً القول انه كان بوسعه آنذاك مساعدة العرب أكثر مما ساعدهم، الأمر الذي كان سيفتح أمامه افاقاً أوسع لا سيما مع حليف وازن مثل مصر، وقيادة تاريخية كقيادة جمال عبد الناصر.
وكان يفترض بأن يستدرك "السوفيات" الامر سريعاً بعد خسارتهم لمصر وذلك بدعم سوريا كي تحقق "التوازن الاستراتيجي" مع "اسرائيل" كما كان يطمح وينادي به رئيسها الراحل حافظ الأسد.
ليس من العسير على دولة عظمى أن تحول صديقاً إلى قوة عسكرية لها شأن، وهذا ما فعلته أمريكا مع "اسرائيل"، وما فعله "السوفيات" مع كوريا الشمالية والهند.
قال "السوفيات" للعرب عام 1967 لقد عجزتم عن استعمال سلاحنا، وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكن عندما قرر العرب وعقدوا العزم، ماذا كانت النتيجة؟!
رحل عبد الناصر ولم يتمكن من الحصول على طائرات الميغ 23 لمواجهة الفانتوم، بل حتى تزويده بصواريخ أرض جو دفاعية، جاء بعد جهد جهيد وبعد تهديده القيادة "السوفياتية" بتقديم استقالته وتسليم السلطة لرئيس يمكنه التفاوض مع الأمريكيين – كما نقل هيكل ـ
.
وبعد سنوات وعندما وصلت الميغ 23 إلى سوريا كانت "اسرائيل" قد تزودت بطائرات أكثر تفوقاً وهي F15 و F16 ، أما ما سيصلها من سلاح بعد زيارة ميدفيدف فنرجو أن يأتي في وقته المناسب، كما هو في مكانه الصحيح باعتباره البلد الوحيد في العالم العربي الذي لم تستطع أمريكا تطويعه.
مرة أخرى سيبدو من الحماقة استنساخ الروس للتجربة السوفياتية في المنطقة، لان موسكو اليوم لا تملك ما كان لديها بالأمس، ونعني البعد العقائدي في السياسة الذي كان بمثابة "القوة الناعمة" التي ساعدت على تمدد النفوذ السوفيات نحو بلدان عدّة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
إضافة إلى ذلك، ستبدو مقاربة قضايا المنطقة بالرؤية السوفياتية نوعاً من قصر النظر، فالشرق الأوسط لم يعد ساحةً لمشاغلة أمريكا، أو مشاكستها، وإنما هو الآن ساحة وممر نحو وسط آسيا، وهي ما كان يصفها هتلر "البطن الأسيوي الرخو" لروسيا.
إن هذا لا يتناسب إلا ورؤية استراتيجية جديدة تنظر إلى الشرق الاوسط بوصفه خط الدفاع عن روسيا بالذات، بعد ان باتت أمريكا على ضفافها القريبة في الخليج وافغانستان. فهل الأداء الحالي للسياسة الروسية يتناسب وهذه الأخطار التي يستشعرها الاستراتيجيون في موسكو، وبناءً عليها يدقون الناقوس؟ حتى الساعة تدار السياسة الروسية في المنطقة بعقلية (تجارة التجزئة)!. تعطي إيران تسهيلات لاقتناء تقنيات صناعة بعض الأسلحة، او تخصيب اليورانيوم، ثم تنضم بمكان آخر إلى أمريكا في فرض العقوبات عليها للحيلولة دون اتمام مشروعها النووي!.
صحيح أنه ليس بوسع روسيا أن تكون اللاعب الأول في المنطقة، ولكن بوسعها حتماً أن تكون اللاعب الثاني، لا سيما بعدما أصبحت الأمور أسهل أمامها حيث نقاط ارتكازها المفترضة في المنطقة (سوريا – إيران – المقاومة) باتت في مواقع أكثر تقدماً وتأثيراً قياساً بأصدقاء الأمس.
المفارقة أن هذه القوى الثلاث استطاعت ان تتكيف مع غياب روسيا الطويل عن الساحة، وان تبني قواها الذاتية، كلٌّ بحسب ظروفها، حتى تمكنت من الصمود في وجه الهجمة الأميركية ـ الصهيونية، ثم على صخرتها تكسر " مشروع الشرق الأوسط الجديد". لقد بات الطريق أمام موسكو أسهل الآن وأرحب، وكل المرجو منها ان لا تضيع الفرصة.
(*) كاتب من لبنان