ارشيف من : 2005-2008

بناء وطن لا بديل منه

بناء وطن لا بديل منه

الحوادث. انتقلنا من مرحلة الاغتيال السياسي التي شحنت الأجواء السياسية إلى مرحلة متقدمة من افتعال الصدامات بين القوى السياسية. ربما استطعنا استيعاب حادثة الضاحية الجنوبية بين الجيش والمتظاهرين لأسباب عدة خارجة عن إرادة من كان مسؤولاً عنها. لكن أحداً لم يعد قادراً على أن يضمن احتواء مشكلات مشابهة وحصر المضاعفات إزاء الحذر والشكوك والقلق الذي يتجاوز الجماعات المنظمة إلى جمهورها الأوسع. لقد صارت الطوائف محميات تستأثر الأحزاب بالدفاع عن حقوقها وعن أفرادها ظالمين ومظلومين.‏

من الواضح أن الاستمرار في مناخ الأزمة السياسية بات يعطل إمكان معالجة ملفات أقل أهمية بكثير من الملف السياسي العريض. كما أن الشلل في السلطة يزيد من حال التردي المتفاقم في مستوى الخدمات العامة التي تؤديها الإدارة المركزية. الحساب الجاري للمديونية يتراكم في موازاة أزمة اقتصادية تدميرية لبنية الإنتاج، ولن يكون ممكناً النهوض بالبلاد وتلبية حاجات الإنفاق بالحد الأدنى على إدارات الدولة نفسها ومؤسساتها إذا ما انعدمت احتمالات النمو الاقتصادي الشديد الحساسية للاستقرار وللأمن. عملياً لم نعد أمام خيارات سياسية مختلفة بل نحن أمام مسار واحد باتجاه الانهيار والتفكك تشترك فيه الطبقة السياسية بجميع فروعها. لا ندري كيف أن بعض الحرصاء على أولوية المسألة الاقتصادية إلى حد جعلها مشروعاً نقيضاً لسياسات الدفاع الوطني واحتياجاته، وهم يتندرون بكلفة ذلك، ما زالوا يتشبثون بمواقف قادت وتقود إلى تأجيل كل الخطط والمبادرات الهادفة إلى المعالجة الاقتصادية. كأن هذا الفريق بحق يجعل من «مؤتمر باريس لدعم لبنان» مشروطاً بترتيبات سياسية لن تستوفي عناصرها إلا بتبديل معين في التوازنات والتوجهات الوطنية. فما معنى الرهان على دعم الخارج واستجداء المساعدات والقروض فيما نستنزف موارد البلاد وطاقاتها ونهدر قدراتها الإنتاجية؟! أم أننا بجد نفصل بين السياسة والاقتصاد إلى هذا الحد وأننا نطمئن إلى غيبيات اقتصادية مع انتهاء الأزمة السياسية؟‏

لكن ما بتنا نخشاه أكثر أن لا نعود نملك نقطة ارتكاز واحدة لإحياء مشروعنا الوطني ومقومات الوحدة ومؤسسات الدولة، فضلاً عن احتمالات الضرر المباشر في الممتلكات العامة والخاصة إذا ما تراخى حبل الأمن واتسعت أعمال «الإرهاب» واستشرت أعمال العنف. فلأي مسار يأخذنا أهل السياسة وفي أي اتجاه ولأية نتائج؟! أليس كافياً حتى الآن ما آلت إليه أوضاع البلاد والعباد. أليس نذيراً من الشؤم على مستقبل حياتنا الوطنية ما بات يندلع من شعارات مملوءة كراهية وحقداً على الآخر. أليس مذهلاً حجم الشباب الغاضب على ضفتي البلد المنقسم ومدى الاستعداد لديه لخوض المواجهة حتى آخر الكأس؟ أليس مدعاة للتأمل والتفكّر بما خلص إليه تقرير لجنة «فينوغراد» الإسرائيلية عن وجوب الاستعداد لحرب جديدة أرضنا ما زالت أحد أهدافها؟ لمن يعمل أهل السياسة، لأي بلد ولأي شعب ولأي مستقبل؟! علينا أن نصدق الناس القول بأن معظم أهل السياسة لا قضية لديهم سوى قضية نفوذهم وسلطتهم ومصالح لا تتعدى دائرة الأتباع والمحازبين والمستفيدين. فليتواضع هؤلاء قليلاً ويوازنوا بين «المطامع» وبين قدرة البلاد على الاحتمال.‏

لقد جرّبنا معظمهم وخبرناهم وما زلنا نرزح تحت وطأة الإرث الذي لم تسدد ديونه. هل يظنون أن شتاء واحداً يكفي لغسل وإزالة ما علق على أجسادهم من وحل ودم!؟ ليس هناك من مشروع سياسي يمكن أن يزدهر في مناخ الخوف والتخويف والطعن والتخوين والثقافات الحصرية وسياسات العزل والحرمان والتهميش والأجيال المدفوعة للموت في الشوارع، متشابهة بلحمها ودمها، بلسانها وحرارة قلبها، بطموحاتها الإنسانية، إلا إذا كان بعضها مضللاً واهماً مشتبهاً أو مرتزقاً. لا لثقافة الحقد والبغضاء والكراهية والعمى، ولا لثقافة الارتزاق والاستلاب المعنوي والمادي.‏

آن لكل لبناني أن يفحص عقله وضميره وخطابه وسلوكه وأن يفكر في غده وفي أخيه وجاره وأهله ومستقبل أبنائه وأن يسأل ويحاسب وأن يتذكر وأن يسترجع ما كان وما صار وماذا جنى وماذا يجني هو وسواه في كل ما هو حاصل وسيحصل. ليختر ما يختار بإرادة حرة وليحب ويكره تاركاً للصلح مطرحاً. تاريخنا عكر، أهواؤنا قاتلة. غرضياتنا مدمرة، ثقافتنا مشوهة. لكننا باقون هنا معاً في عراك طويل وفي سلم يستعاد ثم يتعثر ثم يستعاد ولا خيار لنا سواه. قضيتنا أن نبني وطناً لا أن نختار بديلاً منه.‏

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية‏

2008-02-05