ارشيف من : 2005-2008

بوش في إفريقيا... بدواعي الرحمة!

بوش في إفريقيا...  بدواعي الرحمة!

ماذا تكون نتيجتك النهائية إذا سجلت فشلين وخمسة نجاحات؟ بهذا المنطق، وفي ظل تخبطه السافر في العراق وأفغانستان، يحاول الرئيس الأميركي، جورج بوش، أن يغطي، بجولته على خمسة بلدان إفريقية هي بنين وتنزانيا ورواندا وغانا وليبيريا، صورته بوصفه الرئيس الأقل شعبية والأكثر فشلاً في تاريخ الرؤساء الأميركيين. لماذا هذه البلدان بالذات؟ لأنها الأكثر استقراراً وازدهاراً وديموقراطية في المحيط الإفريقي، على ما تقوله المصادر الأميركية، وهي أمور تستحق معها أن تحصل على الدعم والمساعدة. فأميركا، على ما قاله مستشار بوش للأمن القومي، ستيفن هادلي، هي "بلد رؤوف، ولأن الأميركيين يرغبون في مساعدة المحتاجين". وبالمعنى نفسه، وصفت المصادر الأميركية رحلة بوش الإفريقية بأنها رحلة "الرحمة". من هنا جاء الحرص الأميركي على نشر قوائم طويلة بأرقام المساعدات التي قُدّمت أو ستُقدّم من إدارة بوش إلى البلدان الفقيرة، في إفريقيا بوجه خاص، والتي وُصفت بأنها الأكثر ضخامة منذ مشروع مارشال.
 عشرات المليارات من الدولارات مخصصة للتنمية والصحة والتعليم على شكل علاجات ضد الإيدز والملاريا وكتب بملايين النسخ وبعثات ومنح وزيارات إلى الولايات المتحدة استفاد منها نصف مليون فتاة غالبيتهن من إفريقيا. إضافة إلى الإسهام الأميركي في شطب الديون والإنفاق الخاص بتعزيز الديموقراطية والتنوير الضروري لإقناع الأفارقة بفضائل اقتصاد السوق.
لكن الأرقام المذكورة لا تنجح في حجب حقيقة المواقف الأميركية المعروفة التي عطّلت مفاوضات التجارة العالمية منذ سنوات لأسباب تتعلق تحديداً بالملكية الفكرية وما يترتب عليها من حرمان مرضى الإيدز من حق الاستفادة من العلاجات الرخيصة الثمن التي تنتجها بعض بلدان العالم الثالث، في وقت تصل فيه نسب الإصابة بهذا المرض إلى أكثر من ثمانين بالمئة من سكان العديد من بلدان إفريقيا ما تحت الصحراوية. أو تلك التي دارت حولها الخلافات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي عارضت الخطط الدولية الخاصة بالمساعدات وشطب الديون. أو تلك التي تشاركت فيها الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي في عدم التوقف عن السياسات الحمائية التي تحرم البلدان الإفريقية من تصدير الكثير من منتجاتها إلى أسواق الغرب، أو عن تقديم المساعدات الحكومية للمزارعين الغربيين بهدف كسر أسعار المنتجات الإفريقية.
 فالمعروف في هذا المجال أن كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يدفعان سنوياً نحو 300 مليار دولار للمزارعين الأميركيين والأوروبيين ثمناً لخفض أسعار منتجات زراعية أساسية كالقمح والذرة والقطن لهدف وحيد هو الإجهاز النهائي على هذه الزراعات في بلدان العالم الثالث، ومنها إفريقيا، عبر كسر أسعارها في السوق الدولية. وقد بينت بعض الدراسات أن عشرات الملايين من مزارعي القطن الأفارقة قد افتقروا في السنوات الأخيرة بسبب الكساد الناجم عن المنافسة الأميركية، واضطروا إلى هجر مزارعهم وأريافهم للالتحاق بضواحي الصفيح المتكاثرة حول المدن، أو للانضمام إلى موجات الهجرة السرية نحو الشواطئ الأوروبية... وعليه، فإن دعوى الرحمة والسخاء الأميركيين هي مجرد نفاق يتستر على سياسات الإفقار المبرمج والشامل بمنح هبات تُسترد بأشكال أو بأخرى بعد الانتهاء من عرض احتفالياتها أمام عدسات المصورين. وحتى لو افترضنا أن الشيكات التي وزعها الرئيس بوش على رؤساء البلدان التي زارها خلال جولته الإفريقية هي تعبير عن "الرحمة" التي تُستدر بها مشاعر التقويين الأميركيين الجدد في زمن المسيحية المتصهينة، فإن السؤال يظل مشروعاً حول صدقيتها، خصوصاً عندما نسمع ستيفن هادلي وهو يقدم شرحاً مفاده أن الرخاء الذي يحققه الناس بفضل المساعدات الأميركية يدفعهم إلى عدم مساعدة الإرهاب. وعليه، تكون جولة بوش الإفريقية حلقة من حلقات حربه على الإرهاب. لكنها تمثل خطوة تراجعية في تلك الحرب بقدر ما تبتعد عن الجبهات الأساسية التي فتحت دون أن تسفر عن غير الهزائم لتنتقل إلى جبهات خلفية. فبعد الهزيمة في العراق وأفغانستان وعلى جبهة المقاومة في لبنان، يصرف الرئيس بوش وجهه نحو دارفور وزيمبابوي وتشاد على أمل أن تنقضي الشهور القليلة المتبقية من ولايته وفي سجله شيء غير الخيبة. والأكيد أن بوش سيتمكن من إقامة المزيد من القواعد العسكرية في إفريقيا، وهو الأمر الذي وافقت عليه ليبيريا مثلاً.  وقد يتمكن من فتح بلدان إفريقية أمام شركات النفط والتعدين الأميركية، لكن مهمته لن تكون يسيرة في ظروف التمدد الصيني الواسع في هذه المجالات. كما أن تظاهرات الاحتجاج التي استقبلته في دار السلام وغيرها، تؤكد أيضاً أن حظوظه في إفريقيا لن تكون أفضل مما هي عليه في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأوروبا التي تحولت مجدداً، مع الدرع الصاروخية، إلى مسرح للحرب الباردة، وإلى ما هو أكثر من ذلك، مع تفجر مشكلة كوسوفو.
عقيل الشيخ حسين    
الانتقاد/ العدد 1255 ـ 22 شباط/ فبراير 2008

2008-02-22