ارشيف من : 2005-2008
العالمان العربي والإسلامي يعزيان بالشهيد
لا تشكل المقولة التي أطلقها الامين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد عباس الموسوي "اقتلونا فإن شعبنا سيعي أكثر فأكثر" مجرد عبارة عابرة قيلت في مناسبة ما وانتهى مفعولها، بل تأكد مع مرور الزمن انها قاعدة علمية تفسر ظاهرة غير مألوفة في الصراعات، وهي نمو جماعة تتعرض للاضطهاد والقتل خلافا للمنطق البشري التقليدي والمتعارف عليه بأن الاستهداف المباشر للجماعات يؤدي الى تلاشيها واضمحلالها.
وقد كان ابرز الاختبارات لهذه النظرية استشهاد السيد عباس الموسوي نفسه وقبله الشيخ راغب حرب وما بينهما من شهادات لكوادر ومجاهدي المقاومة الاسلامية بحيث شكلت شهادة الشيخ راغب حرب نقطة تحول مفصلية في تصاعد شعبية المقاومة الاسلامية في لبنان وتزايد فعاليتها، فكانت تلك مرحلة الولادة الاولى التي استمرت حتى الولادة الثانية مع استشهاد السيد عباس، حيث كانت ولادة ثانية دفعت بالمقاومة من مجالها المحلي الرحب الى المجال الخارجي الارحب، وشكل ذلك منعطفاً في الصراع استمر يتصاعد حتى الاندحار الاسرائيلي في العام الفين والهزيمة الكبرى في تموز 2006 والتي زلزلت اسرائيل وادخلتها في طور جديد من الصراع مع حزب الله.
اليوم وبعد اغتيال القائد الجهادي الكبير الحاج عماد مغنية دخل الصراع طورا مختلفاً اختار السيد حسن نصر الله توصيفا دقيقاً له معلنا بدء نهاية اسرائيل واخراج الصهاينة من الوجود.
ليس هذا الكلام مجرد نص شاعري او خيالي في لحظة انفعال عاطفية وتأثر بتداعيات الاغتيال، بل هو تطبيق مستمر لتلك القاعدة التي اطلقها سلفه السيد عباس. فمع هذا الاغتيال دخل الصراع بين الحق والباطل على الجبهة بين اسرائيل ومن معها والمقاومة ومن معها مرحلة جديدة شخصها العدو نفسه وتمثلت بحالة الهستيريا والرعب جراء جريمة هو ارتكبها بنفسه.
على ان ابرز مظاهر هذا التحول هو طريقة التفاعل الشعبي في العالمين العربي والاسلامي مع جريمة الاغتيال بحيث كانت مناسبة للتعبير عن حجم التعاطف والتوق الى افعال من نوع مختلف تواكب ما جرى في نصر تموز الالهي وتتماهى معه، وخصوصاً ان الجريمة تزامنت مع اعتراف لجنة فينوغراد الاسرائيلية الرسمية بحجم الهزيمة التي تلقاها اقوى جيش في الشرق الاوسط على يد مجموعة من المقاتلين المدربين جيداً. وبقدر ما كان للقائد الشهيد دور في هذا النصر، جاء الاحتفاء به شعبيا لافتاً بحيث سجلت سوابق غير مألوفة، ولا سيما ان الاعلام الغربي والعربي المعادي للمقاومة سارع الى اطلاق عملية تشويه منظمة للشهيد القائد عبر وسمه بـ"الارهاب" واستحضار تاريخه النضالي من منظار اميركي واسرائيلي، امعانا في النيل منه ومن مقاومته، لكن هذا الامر كان له مفعول عكسي. وقد كان لافتا من بين جميع مظاهر الاحتفاء والتبريك ما حصل في الكويت، والجرأة التي فاجأ بها التحالف الاسلامي الوطني اولاً في بيانه الذي اعتبر فيه "أن الشهيد السعيد إن غاب عن المجاهدين الأحرار بجسده الشريف لكنه باق بنهجه وطريقه الحسيني المتواصل ليستمر إلى تحرير فلسطين.. وأن اغتيال هذا القائد العظيم أحد أبرز مظاهر الارهاب المنظم الذي يقوم به العدو الصهيوني، ولن يتمكن من أن ينال من عزيمة المجاهدين، بل سيعزز هذا الحادث روح الجهاد والشهادة التي ستستمر وتتواصل إلى زوال إسرائيل من الوجود الذي سيشهده جميع الأحرار في العالم"، ثم عبر اقامته مجلس عزاء وتبريك للقائد مغنية ورفع صورته في الكويت والدفاع عنه واصدار البيانات المنددة بالجريمة وتصدي نواب من مجلس الامة لدرء التهمة عنه علنا وامام شاشات التلفزة، والحشود الشعبية التي شاركت في هذه المناسبة، لتشكل كلها علامة فارقة في المسار السياسي لهذا البلد الحليف للولايات المتحدة، التي تربط اسم الشهيد مغنية بعمليات حصلت فيه دون دليل. وقد كان ذلك محل تفاعل شعبي بين مدافعين عما حصل وبين مستنكرين، حيث وصل البعض برفع دعاوى قضائية ضد النائبين عدنان عبد الصمد واحمد لاري لانهما اشادا بالمجاهد مغنية شهيدا للامة وبطلا من ابطالها، كما دخلت الحكومة الكويتية طرفا مباشرا عبر استنكارها لمهرجانات التأبين للشهيد.
من هنا تأتي اهمية ما حصل في الكويت كونه خروجا على قوالب سابقة ترفض مقاربة هكذا موضوعات وبهذه الطريقة، ليبدو مهرجان التحالف الاسلامي الوطني الكويتي مؤشراً على انماط التحول في المجتمعات العربية، ذلك ان حملة التعاطف مع مقاومة حزب الله وشهيده القائد شملت معظم الدول الخليجية ومنها البحرين التي شهدت مجالس عزاء وتبريك عديدة، فضلا عن تصريحات وبيانات لشخصيات سياسية ودينية وجمعيات تتصدى للشأن العام، وابرزها جمعية الوفاق الوطني التي اكدت في بيان لها أنّ "هذه العملية لن تزيد جمهور المقاومة الا صمودا واصرارا على نهج المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني الغاصب"، و"أي مساس أو استهداف لها هو استهداف لكل العرب وكل المسلمين وكل الأحرار في العالم".
واذا كان الموقف الايراني طبيعياً نظرا للصلة التي تجمع الشهيد بالجمهورية الاسلامية التي عزّت قيادتها وشعبها واعتبرت عبر رئيسها محمود احمدي نجاد ان اسرائيل باغتياله فقدت اسباب وجودها ودخلت في طريق الزوال، فإن العراق كان متميزاً ايضاً في التفاعل مع الجريمة وبمظاهر عدة ابرزها اعلان التيار الصدري باسم زعيمه السيد مقتدى الصدر الحداد في مكاتبه ثلاثة ايام، ورفع صور الشهيد في الساحات العراقية واللافتات التي تمجد تاريخه، وتنظيم مسيرات تشييع رمزية له في مدن عراقية عدة، فضلاً عن اصدار عصائب اهل الحق وكتائب حزب الله في العراق بيانات تعزية بالقائد، وتتوعد العدو الاسرائيلي الاميركي برد مؤلم، وهما من الفصائل الرئيسة في المقاومة العراقية، وينفذان عمليات نوعية طالما بثت عبر شاشات التلفزة، وهذا يشير الى ان التفاعل العراقي الواسع شكل صلة وصل معنوية ونفسية بين المقاومتين في لبنان والعراق، وأشار الى مراحل مقبلة من الصراع.
على اي حال فإن الوفود التي قصدت بيروت معزية ومباركة والبرقيات التي وصلت الى قيادة حزب الله من قوى وفعاليات المجتمع العربي والاسلامي بجنسياته المختلفة بقدر ما اظهرت حجم الالتفاف الشعبي في المنطقة حول المقاومة وخيارها وقيادتها، فهي أشارت الى ارتفاع منسوب الوعي وكسر المحظورات السياسية التي تفرضها بعض الانظمة، اضافة الى ان اشتغال البعض على تشويه صورة القائد الشهيد، لم يترك اي اثر سلبي بل اعطى مفعولا عكسياً ليبشر كل ذلك بتحولات نوعية في الخطاب والممارسة من قبل القوى الصاعدة في المنطقة التي تواكب التحولات المرتقبة في المواجهة التي وعد بها السيد نصر الله في تأبين القائد الجهادي الكبير.
عبد الحسين شبيب
الانتقاد/ العدد 1255 ـ 22 شباط/ فبراير 2008