ارشيف من : 2005-2008

السينما الايرانية: أصالة الحضارات وارتقاء إلى العالمية

السينما الايرانية: أصالة الحضارات وارتقاء إلى العالمية

ثمة ثورات تلغي وتحطم ما ورثته من حضارات، وثمة ثورات أخرى تعمل على استلهام العبر مما وصل اليها من حضارات، فتقوم بدراستها وغربلة الغث من السمين منها. وهذا ما قامت به الثورة الإسلامية في ايران بعد انتصارها في العام 1979، خاصة في نظرتها للفنون الموروثة بشكل عام وللسينما بشكل خاص. ولعلّ هذه النظرة الواعية عند الإمام الخميني الراحل (قده) وتأثير السينما هو ما أعطاها هذا الزخم من الاستمرار والتطور حتى وصلت إلى مصاف العالمية.
لا بدّ من القول بداية ان علاقة الشعب الإيراني مع الفنون علاقة متأصلة في جذوره منذ اتخذت المراثي شكلاً من أشكال العروض التعبيرية وذلك إبان العهد الصفوي، عندما أصبح المذهب الشيعي هو المذهب الرسمي في ايران.
هذا التوق إلى المشهد الفني هو ما جعل الملك مظفر الدين شاه يحمل معه إلى ايران في العام 1900 أول كاميرا سينمائية بعدما شاهدها وتعرف اليها في أوروبا. ولعلّ ذلك التاريخ هو الذي أرّخ لانطلاق دورة التصوير والانتاج  السينمائي في ايران، حيث تطور ذلك الانتاج حتى قام "داريوش مهرجوي" في العام 1968 بتصوير وإخراج فيلم "البقرة"، الذي يروي علاقة حب شاعرية بين مزارع فقير وبقرته. وقد أدهش هذا الفيلم لجنة التحكيم في مهرجان البندقية، بعدما تلمست فيه ذلك الخط الإنساني المرهف الذي ينمّ عن ثقافة شعب يمتلك موروثاً ثقافياً جديراً بالاهتمام.
لكن فيلم "البقرة" هذا والأعمال التي تلته، ظلت خجولة أمام تدفق أفلام هوليود إلى صالات العرض السينمائية في ايران في عهد الشاه، التي  يحمل معظمها ثقافة وشحنة فيها الكثير من نمط التغريب والإفساد الأخلاقي، وهو ما لاقى رفضاً من شرائح اجتماعية واسعة محافظة في إيران.. واستمر هذا الأمر حتى قيام الثورة الاسلامية على يد الراحل الإمام الخميني (قده) في العام 1978.
منذ انتصار الثورة الإسلامية في ايران حتى العام 1983 سيطر على صالات العرض السينمائية اضطراب، فأقفلت معظمها بسبب عرضها أفلاما أجنبية تنافي الأخلاق والدين الاسلامي. وبقي الأمر كذلك حتى أمر الإمام بضرورة دعم الانتاج السينمائي في ايران، وتدوين ووضع الضوابط والمقررات اللازمة، مع الأخذ بعين الاعبتار الظروف التي استجدت في المجتمع بعد قيام الجمهورية الإسلامية، وتأسيس الدساتير والقوانين التي تنبع من أصالة الدين الإسلامي. وتبع ذلك وضع دور السينما تحت إشراف الحكومة لضبطها وفق المعايير الدينية والأخلاقية الاسلامية.
إن من الإنصاف القول ان النظرة الواعية والعارفة للإمام الخميني بأهمية السينما هو ما أسس مفهوماً جديداً ونظرة جديدة عند المخرجين والكتّاب في تعاطيهم مع الانتاج السينمائي، خاصة بعدما دعا الإمام إلى الاستعانة بهذا  الفن للتعريف بأهداف الثورة الإسلامية وبالقيم الدينية والأخلاقية لها، والتي إذا ما استخدمت عكسياً فقد تكون بمثابة السم القاتل والسلاح المميت لتلك الثورة.
ومن الضوابط التي دعا اليها الإمام الخميني الراحل في التعاطي مع السينما والفنون، ألا يتعاطف المشاهد مع المجرم أو مرتكب المعصية، وعدم تصوير تهريب المخدرات مطلقاً، واحترام الزوج والعائلة، وعدم التطرق إلى الخيانة الزوجية، ومنع التلامس بين الرجل والمرأة، وتوظيف مختصين للمكياج من الجنسين منعاً لأي احتكاك غير شرعي، وتفادي المواضيع المبتذلة أو المزعجة، ومنع الشتائم مطلقاً، وعدم تمجيد العنف والجنس، واحترام جميع الأديان وعدم الإساءة لأي منها.
هذه الضوابط جعلت الكتاب والمخرجين يعودون لاستلهام النصوص من مخزونهم الثقافي والتراثي، وفي تشريح الواقع الاجتماعي والسياسي الذي يعيشونه، مما أطلق ثورة جديدة في عالم الانتاج السينمائي لعلها توازي الثورة الاجتماعية التي أسقطت نظام الشاه، فجاءت ثورة السينما لتمحو كل ما هو دخيل وتؤسس لبنية ثقافية فنية أثارت إعجاب كبار النقاد في الغرب.. حيث اعتبر الناقد البريطاني الكبير "مارك كوزتس" أن هذا التوجه حرّر السينما الإيرانية من عوامل السوق (الجمهور عاوز كده)، ودفعها باتجاه تثبيت هويتها الأصيلة المهتمة بالتأمل والتمثيل والرمزية، حيث تكرست بذلك خصوصية السينما الإيرانية ودفعت السينمائيين الإيرانيين إلى رفع مستواهم الفني. ودعا مارك السينما البريطانية إلى الاستفادة من السينما الايرانية، بل والتعلم منها.
هذا الرأي النقدي وغيره من الآراء هو انعكاس لما حققته السينما الإيرانية من نجاح عالمي، حيث حازت أفلامها الجوائز ولمعت أسماء مخرجين في أهم المهرجانات العالمية، ونذكر منهم: محسن مخملباف وإبراهيم حاتمي كيا وجعفر بناهي ومجيد مجيدي وعباس كياروستامي وأمير نادري، الذين حصدوا الجوائز في مهرجانات "كان" في فرنسا و"لوكارنو" في في سويسرا وأفلام  القارات الثلاث في فرنسا، ورشحت بعض الأفلام إلى أوسكار هوليود كفيلم "طعم الكرز" لمجيد مجيدي.
هذه العالمية اليوم للسينما الإيرانية هي وليدة دعم من أعلى الهرم في سلم السلطة في ايران، حيث أسست الدولة الإيرانية مهرجاناً سنوياً للسينما هو مهرجان الفجر السينمائي في الأول من شهر شباط تيمناً بانتصار الثورة الاسلامية في ايران. كما قامت وزارة الثقافة الايرانية بإنشاء مدينة كبيرة  للانتاج السينمائي تحتوي على مدن مستوحاة من التاريخ الاسلامي، وشوارع وسكك حديد. كما اشترت الدولة أول ثلاثة أفلام بمبالغ عالمية ووزعتها في العالم. وبلغت الحرية في العلاقة مع السينما أنها احتوت على أعلى نسبة من المخرجات النساء في العالم.
اليوم وبفعل هذه الثورة السينمائية يوجد في ايران 268 داراً للعرض، ويبلغ الانتاج  السنوي 94 فيلماً. أما عدد الذين يرتادون دور السينما لمشاهدة الأفلام فيبلغ حوالى 7.809 مليون شخص سنوياً.
حسان بدير
الانتقاد/ العدد 1253 ـ 8 شباط/ فبراير 2008

2008-02-08