ارشيف من : 2005-2008
خيارات تركيا وخيارات الأكراد.. الدوران في حلقة مفرغة!
بغداد ـ عادل الجبوري
يعكس تقاطع وغموض المواقف والافعال وردود الافعال في بغداد واربيل وانقرة وعواصم اخرى، بعضها عربية وبعضها غير عربية، عمق وتعقيد الازمة المزمنة (التركية ـ الكردية).
من بغداد كانت صورة الموقف حيال الاجتياح العسكري التركي للأراضي العراقية من جهة الشمال غامضة ومشوشة، وتعكس قدرا من الحيرة، وبعضا من الحرج، ونوعا من التردد، وجانبا من اشكاليات الواقع السياسي القائم على معادلات حساسة ودقيقة وهشة، وفي بيئة تبدو في كثير من الاحيان مزروعة بالالغام في كل جوانبها وزواياها.
فالحكومة العراقية التي استنكرت وادانت دخول الجيش التركي الى الاراضي العراقية، ودعت انقرة الى احترام سيادة واستقلال العراق والالتزام بالقوانين والمواثيق الدولية، لم تفعل شيئا اكثر من ذلك ولم تخطُ خطوة ابعد من هذه.
والناطق باسم الحكومة علي الدباغ الذي ندد في تصريحات رسمية بالتوغل التركي في شمال العراق، وعدّه انتهاكا للسيادة الوطنية وتهديدا للأمن والاستقرار في المنطقة برمتها، دعا انقرة إلى سحب قواتها من الأراضي العراقية بأسرع وقت ممكن، وعقد محادثات فورية مع حكومة بغداد لمناقشة القضية من أوجهها المختلفة!.
بيد انه في ذات الوقت اقر الدباغ ان حزب العمال الكردستاني (pkk) يمثل تهديدا مشتركا للبلدين، إلا أنه رفض اللجوء إلى الوسائل العسكرية للتعامل معه، ورأى ضرورة البحث في خيارات اخرى لمعالجة الازمة واحتوائها!.
وبعيدا عن هذا الموقف الرسمي فإنه لا يبدو حتى الآن ان حجم اهتمام الحكومة في بغداد بتطورات الامور في شمال العراق متناسب مع طبيعة ومستوى تلك التطورات وخطورتها. واذا كانت الانتقادات التي وجهت للحكومة من قبل اطراف وقوى وشخصيات سياسية او غير سياسية رأت ان الاجتياح التركي للاراضي العراقية كان ينبغي ان يواجه بمواقف وردود افعال اكثر حزما، مبررة ومفهومة، انطلاقا من حقائق الوقائع وطبيعة التجاذبات السياسية في الساحة العراقية، فإن الانتقادات اللاذعة التي وجهها وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري للحكومة التي يعد واحدا من عناصرها المهمة باعتباره مهندس السياسة والعلاقات الخارجية، بدت غير مفهومة الا في سياق اخر.
فالوزير زيباري انتقد في تصريحات ادلى بها لعدد من وسائل الاعلام تعامل الحكومة العراقية مع العمليات العسكرية التركية شمال العراق، مشيرا في ذات الوقت إلى أنه يعي أنه جزء من الحكومة ولكنه غير راض عن تعاملها مع هذه الأزمة.
ويبدو ان وزير الخارجية العراقي الذي يعد من القيادات البارزة في الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، فضلا عن صلة القرابة التي تربطه بالاخير (اذ انه من اخواله)، وجد نفسه اقرب الى انتمائه الحزبي والقومي اكثر من ارتباطه الوظيفي حينما حمل على الحكومة.
وكان في انتقاداته قريبا جدا مما ادلى به رئيس حكومة اقليم كردستان نيجرفان البارزاني حول الازمة حينما قال في مؤتمر صحفي عقده بمبنى مجلس وزراء الاقليم مطلع الاسبوع الجاري "للاسف موقف العديد من الدول الاجنبية كان اقوى من موقف الحكومة العراقية، وهو موقف محرج بالنسبة لنا لانه موقف هزيل".
وموضوعيا فإنه لا يمكن التعاطي مع موقف الحكومة العراقية بمعزل عن واقع شائك ومعقد يرتبط بخلفيات تاريخية ومحكوم بإيقاع اوضاع تتجاوز حدود العراق، وحدود المنطقة ايضا، لتأخذ طابعا دوليا.
فالحكومة العراقية تدرك ان جانبا من الازمة تحرك خيوطه الولايات المتحدة الاميركية، وجانب اخر منها يعد الاكراد العراقيون طرفا فيه، وجانب اخر منها يعكس صراعات مراكز القوى والقرار في انقرة، بين رجال العسكر من جانب ورجال السياسة من جانب اخر، وبين التيار العلماني التقليدي من جانب والتيار الاسلامي الناهض من جانب اخر، وبين القوميين المتشددين من جانب، والمعتدلين من جانب اخر.
والقيادات والزعامات الكردية العراقية تفهم ذلك وتدركه، لذلك فإن الحيرة والحرج والتردد الذي تعاني منه الحكومة في بغداد وهي في مواجهة ازمة مثل ازمة تركيا ـ حزب العمال، تعانيه بنفس المقدار ـ ان لم يكن بدرحة اكبر ـ السلطة السياسية في اقليم كردستان.
فالتصعيد الاعلامي والسياسي الكردي المعلن يقابله خضوع واذعان للامر الواقع، وفي هذا الشأن تشير اوساط ومصادر اعلامية الى انه في الوقت الذي دعا فيه رئيس الاقليم مسعود البارزاني مواطنيه الاكراد الى التهيؤ لمقاومة شاملة للاجتياح التركي في حال تطلب الامر ذلك، فإنه اصدر توجيهات صارمة لحرس الاقليم وكافة التشكيلات بعدم التعرض للجنود الاتراك الذين باتوا يجولون بشكل طبيعي في شوارع مدينة العمادية التابعة لمحافظة دهوك، والخاضعة لنفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني.
والزعماء الاكراد يدركون من جهة اخرى ان الحكومة الاتحادية في بغداد ليس بمقدورها فعل شيء، واكثر من ذلك يدركون ان الولايات المتحدة التي تعد تركيا حليفا استراتيجيا لها لا يمكن ان تغير مسارات الامور بالكامل حتى لو ارادت ان توجه الاتراك بالكامل، ناهيك عن كونها تنظر الى تركيا كدولة مؤثرة وفاعلة وعضو في حلف شمال الاطلسي (الناتو) بشكل مختلف عن نظرتها الى اكراد العراق.
ولعل الرئيس البارزاني الذي حث واشنطن على التدخل لمعالجة المواقف ودفع تركيا الى الانسحاب وايقاف عملياتها العسكرية، لا يتصور ان واشنطن ستسارع الى نجدة الاكراد، فضلا عن انها لا بد ان تكون قد اعطت الضوء الاخضر للحكومة التركية، وهي ـ أي واشنطن ـ لم تفاجأ بدخول الجيش التركي للاراضي العراقية.
والخوف والقلق الكردي هنا لا يتعلق بقضية انتهاك السيادة العراقية من قبل الاتراك، بقدر ما يرتبط بحراجة الموقف واشكالية التوفيق بين عناصر متناقضة ومتنافرة تتحرك على الارض، متمثلة بحزب العمال الكردستاني التركي، والحكومة التركية، لان ارضاء واستمالة أي طرف يفضي تلقائيا الى اثارة غضب وسخط الطرف الاخر، وبالتالي يترتب على ذلك مواقف خطيرة على الاكراد، وتحديدا الزعامات الكردية، وعكس نيجرفان البارزاني جانبا من القلق الكردي حينما قال "ان العمليات التركية تستهدف البنى التحتية لاقليم كردستان وليس عناصر حزب العمال".
وهذا يظهر واضحا من طبيعية علاقات الحزبين الكرديين الرئيسيين مع طرفي الازمة، فجلال الطالباني تعرض مؤخرا لحملة كلامية حادة من قبل حزب العمال، ليس باعتباره رئيسا لجمهورية العراق، ولكن باعتباره زعيما لحزب كردي لديه مواقف سلبية من حزب العمال، بينما زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني يتعرض لحملات من قبل الاوساط السياسية ووسائل الاعلام التركية وتتواصل الاتهامات له بدعم ومساندة حزب العمال وتوفير الملاذات الامنة لعناصره في المناطق الخاضعة لنفوذ حزبه في شمال العراق، وفي الوقت الذي لا يتردد الطالباني في مهاجمة حزب العمال يتجنب البارزاني ذلك حتى لا يستفزه ويفتح جبهة مواجهة معه، وهذا امر لو حصل ستترتب عليه استحقاقات كبيرة وخطيرة.
لذلك فإن الزعامات الكردية تحاول جاهدة احتواء الموقف بأسرع وقت واقل استحقاقات، لان التصعيد والتأزيم سيعود على اقليم كردستان بالضرر قبل غيره، ومن ثم فإن تلك الزعامات ستجد نفسها مهددة وعاجزة عن فعل شيء، لانها ستكون في مواجهة جملة خيارات كل واحد منها اسوأ من الاخر.
والى الان فإنه لا توجد مؤشرات من انقرة حول نهاية قريبة للعمليات العسكرية، بل على العكس تذهب معظم المؤشرات الى ان هذه العمليات ستستغرق وقتا طويلا، ربما يكون اطول من عمليات مشابهة سابقة لها. فأعداد القوات التركية التي عبرت الحدود العراقية- التركية كانت كبيرة، وما زال هناك المزيد من القوات تتدفق عبر الحدود، وبحسب المصادر فإن قيادة الجيش التركي قررت انشاء قواعد عسكرية جديدة لها في شمال العراق، اضافة الى القواعد الموجودة، الى جانب ذلك فإن صفوف تشكيلات حزب العمال الكردستاني تبدو منظمة ومتماسكة الى حد ما الامر الذي يتطلب من الاتراك وقتا غير قصير للقضاء بصورة شبه كاملة على تلك التشكيلات، وقد أشار رئيس الوزراء التركي رجب طيب اوردغان الى ذلك بقوله ان القوات التركية ستعود الى البلاد حالما تحقق اهدافها، ولا يمكن التكهن بموعد لذلك.
وكذلك فإن الاتراك سيستفيدون من المواقف الضعيفة والمرتبكة عراقيا وعربيا واقليميا ودوليا، والتأييد الضمني او غير المعلن لهم من قبل حلفاء مهمين مثل الولايات المتحدة الاميركية.
اضف الى ذلك فإن السعي الى اضعاف الاكراد العراقيين وارغامهم على ابداء مرونة بشأن بعض القضايا السياسية التي يرى الاتراك انهم معنيون بها مثل قضية كركوك، لا يخرج عن سياق وتداعيات الازمة الراهنة، هذه الازمة التي من الخطأ ان يفترض ويتصور البعض انها يمكن ان تنتهي وتضمحل وتعالج على صعيد المستقبل المنظور، لانها ربما كانت من الازمات التي لا يراد لها ان تحل بالمطلق.
الانتقاد/ العدد1256 ـ 29 شباط/ فبراير 2008