ارشيف من : 2005-2008
كوسوفو: ارتدادات خطيرة على الغرب
باستثناء "التخفيف من حدة سير التاريخ" في البلقان، لم يفهم أحد ما قصدته غوندوليزا رايس عندما تحدثت، في معرض كلامها عن وضع كوسوفو الجديد، بعد إعلانها الاستقلال من جانب واحد بدفع من الولايات المتحدة وعدد من بلدان الحلف الغربي، عن السلطان العثماني مراد الأول واحتلاله صربيا وسائر البلقان بعد معركة كوسوفو بوليي التي وقعت منذ أكثر من ستمئة عام. وحتى العبارة التي فهمت لغوياً ظلت في دائرة الغموض المعتم من حيث الدلالات والمقاصد، وإن كان مجرد استحضار تاريخ البلقان المشحون بآلام الصراعات واضحاً بما يكفي للدلالة على أن المحافظين الجدد الذين كوتهم نيران الهزائم في الشرق الأوسط وغيره، قد قرروا بوحي من ذاكرتهم التلمودية، بعث شمشون الجبار في محاولة لإسقاط الهيكل على رؤوس الجميع، ابتداءً من جبهة البلقان هذه المرة.. خصوصاً أن توسيع دائرة الفوضى البناءة من الشرق الأوسط إلى البلقان بعد نقلها إلى أفريقيا الشرقية، حيث بدأت رايس بالتعبير عن نفاد صبرها أمام استفحال المشكلة في كينيا، يقدم كما لو أنه هدية لإسلام يراد له أن يأخذ شكل الاعتدال تجاه المعسكر الغربي، وشكل الصدام على جبهات "تاريخية" أخرى تبرز بينها، في ما يخص الحدث البلقاني، الجبهة السلافية ـ العثمانية.
وأياً كان مستوى الذكاء الذي ينبت على ضفافه مثل هذه القفشات المسرحية، فإنه يظل قابلاً لأن ينفلق عن غباء أصيل بقدر ما قد يقود إلى ارتدادات تكسر أسنان مطلقي هذا النوع من التلاعبات. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال بوضوح ان ما حدث في كوسوفو هو سابقة مرعبة ستفتح الباب واسعاً على صراعات دولية غير متناهية، وإن تداعياتها المؤلمة ستصيب وجوه الغربيين. وبالنسبة للصراعات فقد بدأت بالبروز في كوسوفو بالذات، حيث تسير الأمور نحو إعلان سكان الجيب الصربي استقلالا مضادا عن كوسوفو، وسط سيل من التظاهرات وأعمال العنف التي تجاوزت الإقليم إلى العاصمة الصربية بلغراد وسائر أنحاء يوغوسلافيا السابقة، لتمتد إلى أماكن أخرى في روسيا وأوروبا وأميركا. وقد برزت في التظاهرات صور ستالين مع كل ما "يستجره" ذلك من إيحاءات ذات مغزى، خصوصاً لجهة تزامنها مع فوز الحزب الشيوعي القبرصي في الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يدفع نحو تطورات أكيدة مشابهة لما يجري في كوسوفو على مستوى الخلاف بين شقّي الجزيرة اليوناني والتركي، والذي كان في أساس عدم اعتراف قبرص باستقلال كوسوفو. وبالطبع فإن ما حدث في كوسوفو حفز صرب البوسنة على التلويح باللجوء إلى خطوة مماثلة لخطوة صرب كوسوفو. كما أن مثال كوسوفو بات ماثلاً أمام الأقليات الألبانية في كل من مقدونيا والجبل الأسود واليونان وصولاً إلى صربيا ذاتها، ما يبعث على الاعتقاد بأن المشاكل المتعلقة بالتركة اليوغوسلافية قد بدأت بالانفتاح على مشاكل أكثر تعقيداً، هي تلك المرتبطة بشعار "ألبانيا الكبرى"، وما يجره ذلك من إشكاليات تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى فحوى استحضار كوندوليزا رايس لذكريات العام 1389. وإضافة إلى كوسوفو والأقليات الألبانية، انتعش الكلام مع هذا التطور عن مبادئ وودرو ويلسون وحق الشعوب في تقرير مصيرها عند جميع الإتنيات والطوائف التي تعيش ضمن أطر البلدان الأوروبية، وهذا ما يفسر بروز الشقاق واضحاً بين دول الاتحاد الأوروبي التي اعترف بعضها باستقلال كوسوفو، في حين اتخذ البعض الآخر موقفاً مضاداً لهذا الاستقلال، ما يضع الاتحاد أمام امتحانات عسيرة لا تقل خطورة عن صدمة الاستفتاء على الدستور.
وفي السياق ذاته يبدو أن "المكسب" الغربي في كوسوفو قد بدأ برسم ملامح خسارة كبرى في صربيا. فصربيا كما هو معروف اختارت منذ التدخل الأطلسي وسقوط ميلوسوفيتش، سبيل التقارب مع الغرب وخطت خطوات واسعة باتجاه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.. وكادت الانتخابات الرئاسية الأخيرة تطيح بالرئيس بوريس تاديتش الحائر بين تأييده للغرب وعدم قدرته على معاندة المناخ العام السائد في صربيا والرافض لاستقلال كوسوفو، وهو المناخ الذي يدفع بصربيا نحو المزيد من الارتباط بالمحور الروسي. وفي الوقت الذي كان مرشح بوتين للرئاسة في روسيا ديمترى ميدفيدييف يوقع مع الحكومة الصربية عقوداً لتنفيذ بناء خط لأنابيب الغاز، كان المتظاهرون الصرب يحرقون الأعلام الأميركية وصور كوندوليزا رايس ورئيسهم بوريس تاديتش، في تطور يلفت إلى قرب عودة صربيا بشكل كامل إلى موقعها التقليدي في جانب روسيا.
جيورجيا أيضاً دفعها الخوف من إجراء انفصالي في إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، إلى خفض جناحها أمام روسيا بعد سنوات من تعميق العلاقات مع الغرب. كما أن شبح الانفصال ماثل أيضاً في المقاطعات الشرقية الشمالية من أوكرانيا التي تلقت تهديدات جديدة بقطع إمدادات الغاز الروسي عنها، بالتوازي مع إعراب روسيا عن عدم استعدادها للوقوف مكتوفة اليدين اذا أصرت أوكرانيا على الانضمام إلى الحلف الأطلسي. وهنالك أخيراً تلويح روسيا باللجوء إلى القوة اذا تعرضت الأمم المتحدة في كوسوفو للتحدي من قبل الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1256 ـ 29 شباط/ فبراير 2008