ارشيف من : 2005-2008
باكستان: بين الجيش والديمقراطية
من التضييق على الإعلام وملاحقة قضاة المحكمة العليا، وصولاً إلى الفوز بولاية رئاسية جديدة وإن بالبزة المدنية، بعد المرور بفرض حالة الطوارئ والحظر الذي بدا فترة أنه يهدد إجراء الانتخابات التشريعية في باكستان، لم يتمكن الرئيس برويز مشرف من إحكام قبضته على البلاد بالشكل الذي يؤمن له القدرة على التحكم بالعملية الانتخابية والخروج ببرلمان يساير نهجه السياسي في بلد يعاني من عدم الاستقرار في ظل اضطلاع نظام مشرف بمهمة الحليف الأول لواشنطن في حربها على ما يسمى "الإرهاب"، وما يثيره ذلك من تجاذبات حادة وتفجيرات في الشارع الباكستاني ومواجهات دامية مع رجال القبائل في المناطق الشمالية الغربية المحاذية لأفغانستان.
وعلى الرغم من الضربة التي مُني بها حزب الشعب الباكستاني في التفجير الذي أودى بحياة زعيمته بي نظير بوتو، لم تصل التفجيرات الداخلية إلى حد إعاقة العملية الديمقراطية التي توجت بالانتخابات البرلمانية وأسفرت عن فوز كاسح لحزب الشعب وحليفه حزب الرابطة الإسلامية الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف، وهو الفوز الذي فتح الباب أمام الحزبين لتشكيل الحكومة الجديدة. وبالفعل بات في حكم المؤكد أن الحزبين قد اتفقا على تشكيل الحكومة برئاسة مخدوم أمين فهيم نائب رئيس حزب الشعب، وذلك في ظل أوضاع دستورية لا تسمح لزعيمي الحزبين آصف علي زرداري ونواز شريف بالترشح لهذا المنصب. وهنا تدور التساؤلات حول الشكل الذي من خلاله ستُحكم باكستان من قبل رئيس ذي نفوذ بالغ في أوساط الجيش والمخابرات اللذين يحكمان باكستان مباشرة أو من خلف الستار المدني، ومعارضة باتت تمسك بزمام المبادرة في البرلمان والحكومة. وإذا كان مشرف يمتلك صلاحيات تسمح له بحل البرلمان وإقالة الحكومة العتيدة، فإنه لا يبدو مستعداً لأن يضيف إلى سجله غير الناصع وفق المعايير الديمقراطية إجراءات من شأنها أن تثبت عليه تهمة الدكتاتورية التي توجهها إليه المعارضة. كما أنه لا يستطيع، وهو الذي يوجه نداءات الاستغاثة إلى واشنطن مطالباً بعدم الاستغناء عن خدماته، أن يفعل كل ما من شأنه أن يضعه في موقع العداء لنتائج انتخابات وصفها الرئيس بوش بأنها خطوة مهمة نحو الديمقراطية، من باب حرصه على تجميع ما أمكن من أوراق تسمح بإبقاء النظام الباكستاني، أياً كانت الجهة التي تحكمه، في موقع الحليف الأول في الحرب على الإرهاب.
ولعل خوف مشرف من الإقصاء هو ما يفسر لجوءه إلى عدم رفع سقف تكتيكاته عندما أعلن نيته في عدم تقديم استقالته في الوقت الحاضر على الأقل، في خطوة يُستشف منها تلويح خطير بإمكانية الإقدام على هذه الخطوة لاحقاً، على أمل أن يؤدي غيابه وخلو الساحة لحزبي المعارضة إلى تفجير الخلافات السابقة والمزمنة بين الحزبين، بشكل قد يسمح لتداعيات تلك الخلافات في بلد يشهد تصاعداً لافتاً في أعمال التفجير، بتأمين الأجواء لعودة قوية من خلال الجيش. فما يريده مشرف في الوقت الحاضر هو الاستمرار في الحكم وفق صيغة تعايش مشروط باستمرار الحرب على الإرهاب والمتشددين في ظل التقارب مع الغرب. أما البرلمان والحكومة فتسيطر عليهما معارضة بجناحين لا يبدوان على وفاق تام على أكثر من صعيد. ففي حين يصر نواز شريف على مطلب إقصاء الجنرال الدكتاتور، يبدو آصف زرداري أكثر ميلاً للتعايش مع مشرف، ولكن بعد إضعافه بنزع بعض سلطاته. وفي حين يسعى نواز شريف إلى التوصل إلى حل سياسي مع المتشددين يمر بإقصاء مشرف كوسيلة مثلى لصرفهم عن اعتماد أسلوب العنف، فإن حزب الشعب كان قد وعد قبل مصرع بي نظير بوتو بتنظيف باكستان من المتشددين وبالتعاون مع الولايات المتحدة في ضرب معاقلهم. لكن المواقف الأخيرة لهذا الحزب تذهب، في ظل تصريحات قادة طالبان التي حيت انتصار المعارضة وأبدت الميل إلى إحلال السلام في مناطقها، شرط عدم الاستمرار باعتماد سياسات مشرف، تذهب باتجاه إدانة العمليات "غير العادلة والوحشية ضد المتمردين في بلوشستان"، مع إغداق الوعود بمنح هذا الإقليم سيادة مناطقية مطلقة.
هناك إذن نوع من المباراة بين حزبي المعارضة المتحالفين والمتنافسين على تحقيق نوع من الاستقواء بطالبان وبالمتشددين أو ببعض فصائلهم، طمعاً بتأمين حد أدنى من الاستقرار اللازم للإمساك بدفة حكم سيشتد التنافس عليه مع مشرف الذي وصل إلى حالة من الضعف المثير للمخاوف، لجهة إمساكه بهراوة الجيش. ولكن إلى أي حد يمكن للغزل مع طالبان أن يتجاوز الحدود التكتيكية باتجاه إنتاج صيغة جديدة لحكم باكستان، علماً بأن هذه الصيغة مرفوضة ابتداءً من قبل الأميركيين؟! ذلك مرهون بمدى قدرة المعارضة على الاستثمار في أرضية مآزق أميركا في أفغانستان والعراق، وعلى الجبهات المرتبطة بالملف النووي الإيراني والأزمة اللبنانية والقضية الفلسطينية. وإذا ما حدث ذلك، فإلى أي حد سيكون بإمكان الأميركيين أن يتورعوا، على جري عادتهم، عن دفع مشرف إلى استخدام الجيش في ضرب الخطوة المهمة على طريق الديمقراطية؟
ع.ح.
الانتقاد/ العدد1256 ـ 29 شباط/ فبراير 2008